عظیم النفع
عظیم النفع
امام ابن القیّم
الجهال بالله وأسمائه وصفاته المعطلون لحقائقها یبغضون الله إلى خلقه ویقطعون علیهم طریق محبته والتودد إلیه بطاعته من حیث لا یعلمون ونحن نذکر من ذلک أمثله تحتذی علیها فمنها أنهم یقررون فی نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعه وان طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها ظاهره وباطنه وأن العبد لیس على ثقه ولا أمن من مکره بل شأنه سبحانه أن یأخذ المطیع المتقی من المحراب إلى الماخور ومن التوحید والمسبحه إلى الشرک والمزمار ویقلب قلبه من الإیمان الخالص إلى الکفر ویروون فی ذلک آثار صحیحه لم یفهموها وباطله لم یقلها المعصوم ویزعمون أن هذا حقیقه التوحید ویتلون على ذلک قوله تعالى لا یسأل عما یفعل وقوله أفأمنوا مکر الله فلا یأمن مکر الله إلا القوم الخاسرون وقوله واعلموا أن الله یحول بین المرء وقلبه ویقیمون إبلیس حجه لهم على هذه المعرفه وأنه کان طاووس الملائکه وأنه لم یترک فی السماء رقعه ولا فی الأرض بقعه إلا وله فیها سجده أو رکعه لکن جنى علیه جانی القدر وسطا علیه الحکم فقلب عینه الطیبه وجعلها أخبث شیء حتى قال بعض عارفیهم إنک ینبغی أن تخاف الله کما تخاف الأسد الذی یثب علیک بغیر جرم منک ولا ذنب أتیته إلیه ویحتجون بقول النبی إن أحدکم لیعمل بعمل أهل الجنه حتى ما یکون بینه وبینها إلا ذراع فیسبق علیه الکتاب فیعمل بعمل أهل النار فیدخلها ویروون عن بعض السلف أکبر الکبائر لا الله من مکر الله والقنوط من رحمه وذکر الإمام أحمد عن عون بن عبد الله أو غیره أنه سمع رجلا یدعو الهم لا تؤمنی مکرک فأنکر ذلک وقال قل اللهم لا تجعلنی ممن یأمن مکرک وبنوا ذلک على أصلهم الباطل وهو إنکار الحکمه والتعلیل والأسباب وأن الله لا یفعل لحکمه ولا سبب وإنما یفعل بمشیئه مجرده من الحکم والتعلیل والسبب فلا یفعل لشیء ولا بشیء وأنه لا یجوز علیه أن یعذب أهل طاعته أشد العذاب وینعم أعداءه وأهل معصیته بجزیل الثواب وأن الأمرین بالنسبه إلیه سواء ولا یعلم امتناع ذلک إلا بخبر من الصادق أنه لا یفعله فحینئذ یعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنه لا یکون لا لأنه فی نفسه باطل وظلم فإن الظلم فی نفسه مستحیل فإنه غیر ممکن بل هو بمنزله جعل الجسم الواحد فی مکانین فی آن واحد والجمع بین اللیل والنهار فی ساعه واحده وجعل الشیء موجودا ومعدوما معا فی آن واحد فهذا حقیقه الظلم عندهم فإذا رجع العامل إلى نفسه قال من لا یستقر له أمر ولا یؤمن له مکر کیف یوثق بالتقرب إلیه وکیف یعول على طاعنه واتباع أوامره ولیس لنا سوى هذه المده الیسیره فإذا هجرنا فیها اللذات وترکنا الشهوات وتکلفتا أثقال العبادات وکنا مع ذلک على غیر ثقه منه أن یقلب علینا الإیمان کفرا والتوحید شرکا والطاعه معصیه والبر فجورا ویدیم علینا العقوبات کنا خاسرین فی الدنیا والآخره فإذا استحکم هذا الاعتقاد فی قلوبهم وتخمر فی نفوسهم صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللذات بمنزله إنسان جعل یقول لولده معلمک إن کتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربما أقام لک حجه وعاقبک وإن کسلت وبطلت وتعطلت وترکت ما أمرک به ربما قربک وأکرمک فیودع بهذا القول قلب الصبی ما لا یثق بعده إلى وعید المعلم على الإساءه ولا وعده على الإحسان وان کبر الصبی وصلح للمعاملات والمناصب قال له هذا سلطان بلدنا یأخذ اللص من الحبس فیجعله وزیرا أمیرا ویأخذ الکیس المحسن لشغله فیخلده الحبس ویقتله ویصلبه فإذا قال له ذلک أو حشه سلطانه وجعله على غیر ثقه من وعده ووعیده وأزال محبته من قلبه وجعله یخافه مخافه الظالم الذی یأخذ المحسن بالعقوبه والبریء بالعذاب فأفلس هذا المسکین من اعتقاد کون الأعمال نافعه أو ضاره فلا بفعل الخیر یستأنس ولا بفعل الشر یستوحش وهل فی التنفیر عن الله وتبغیضه إلى عباده أکثر من هذا ولو اجتهد الملاحده على تبغیض الدین والتنفیر عن الله لما أتوا بأکثر من هذا وصاحب هذه الطریقه یظن أنه یقرر التوحید والقدر ویرد على أهل البدع وینصر الدین ولعمر الله العدو العاقل أقل ضررا من الصدیق الجاهل وکتب الله المنزله کلها ورسله کلهم شهاده بضد ذلک ولا سیما القرآن فلو سلک الدعاه المسلک الذی دعا الله ورسوله به الناس إلیه لصلح العالم صلاحا لا فساد معه فالله سبحانه أخبر وهو الصادق الوفی أنه إنما یعامل الناس بکسبهم ویجازیهم بأعمالهم ولا یخاف المحسن لیده ظلما ولا هضما ولا یخاف بخسا ولا رهقا ولا یضیع عمل محسن أبدا ولا یضیع على العبد مثقال ذره لا یظلمها وإن تک حسنه یضاعفها ویؤت من لدنه أجرا عظیما وإن کان مثقال حبه من خردل جازاه بها ولا یضیعها علیه وأنه یجزی بالسیئه مثلها ویحبطها بالتوبه والندم والاستغفار والحسنات والمصائب ویجزی بالحسنه عشر أمثالها ویضاعفها إلى سبعمائه ضعف إلى أضعاف کثیره وهو الذی أصلح الفاسدین وأقبل بقلوب المعرضین وتاب على المذنبین وهدى الضالین وأنقذ الهالکین وعلم الجاهلین وبصر المتحیزین وذکر الغافلین وآوى الشاردین وإذا أوقع عقابا أوقعه بعد شده التمرد والعتو علیه ودعوه العبد إلى الرجوع إلى إلیه والإقرار بربوبیته وحقه مره بعد مره حتى إذا یأس من استجابته والإقرار بربوبیته ووحدانیته أخذه ببعض کفره وعتوه وتمرده بحیث یعذر العبد من نفسه ویعترف بأنه سبحانه لم یظلمه وأنه هو الظالم لنفسه کما قال تعالى عن أهل النار فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعیر وقال عمن أهلکهم فی الدنیا أنهم لما رأوا آیاته وأحسوا حصیدا بعذابه قالوا یا ویلنا إنا کنا ظالمین فما زالت تلک دعواهم حتى جعلناهم حصیدا خامدین وقال أصحاب الجنه التی أفسدها علیهم لما رأوها قالوا سبحان ربنا إنا کنا ظالمین قال الحسن لقد دخلوا النار وأن حمده لفی قلوبهم ما وجدوا علیه حجه ولا سبیلا ولهذا قال تعالى نقطع دابر القوم الذین ظلموا والحمد لله رب العالمین فهذه الجمله فی موضع الحال أی قطع دابرهم حال کونه سبحانه محمودا على ذلک فقطع دابرهم قطعا مصاحبا لحمده فهو قطع وإهلاک یحمد علیه الرب تعالى لکما حکمته وعدله ووضعه العقوبه فی موضعها الذی لا یلیق به غیرها فوضعها فی الموضع الذی یقول من علم الحال لا تلیق العقوبه إلا بهذا المحل ولا یلیق به إلا العقوبه ولهذا قال عقیب إخباره عن الحکم بین عباده ومصیر أهل السعاده إلى الجنه وأهل الشقاء إلى النار وقضى بینهم بالحق وقیل الحمد لله رب العالمین فحذف فاعل القول إشعارا بالعموم وأن الکون کله قال الحمد لله رب العالمین لما شاهدوا من حکمه الحق وعدله وفضله ولهذا قال فی حق أهل النار قیل ادخلوا أبواب جهنم کأن الکون کله یقول ذلک حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم وهو سبحانه بخبر أنه إذا هلک أعداءه أنجى أولیاءه ولا یعمهم بالهلاک بمحض المشیئه ولما سأله نوح نجاه ابنه أخبر أنه یغرقه بسوء عمله وکفره ولم یقل إنی أغرقه بمحض مشیئتی وإرادتی بلا سبب ولا ذنب وقد ضمن سبحانه زیاده الهدایه للمجاهدین فی سبله ولم یخبر أنه یضلهم ویبطل سعیهم وکذلک ضمن زیاده الهدایه للمتقین الذین یتبعون رضوانه وأخبر أنه لا یضل إلا الفاسقین الذین ینقضون عهده من بعد میثاقه وأنه إنما یضل من آثر الضلال واختاره على الهدى فیطبع حینئذ على سمعه وقلبه وأنه یقلب قلب من لم یرض بهداه إذا جاءه ولم یؤمن به ودفعه ورده فیقلب فؤاده وبصره عقوبه له على رده ودفعه لما تحققه وعرفه وأنه سبحانه لو علم فی تلک المحال التی حکم علیها بالضلال والشقاء خیرا لأفهمها وهداها ولکنها لا تصلح لنعمته ولا تلیق بها کرامته وقد أزاح سبحانه العلل وأقام الحجج ومکن من أسباب الهدایه وأنه لا یضل إلا الفاسقین والظالمین ولا یطبع إلا على قلوب المعتدین ولا یرکس فی الفتنه إلا المنافقین بکسبهم وأن الرین الذی غطى به قلوب الکفار وهو عین کسبهم وأعمالهم کما قال کلا بل ران على قلوبهم ما کانوا یکسبون وقال عن أعدائه من الیهود وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله علیها بکفرهم وأخبر أنه لا یضل من هداه حتى یبن له ما یتقی فیختار لشقوته وسوء طبیعته الضلال على الهدى والغی على الرشاد ویکون مع نفسه وشیطانه وعدو ربه علیه وأما المکر الذی وصف به نفسه فهو مجازاته للماکرین بأولیائه ورسله فیقابل مکرهم السیء بمکره الحسن فیکون المکر منهم أقبح شیء ومنه أحسن شیءلأنه عدل ومجازاه وکذلک المخادعه منه جزاء على مخادعه رسله أولیائه فلا أحسن من تلک المخادعه والمکر وأما کون الرجل یعمل بعمل أهل الجنه حتى ما یکون بینه وبینها إلا ذراع فیسبق علیه الکتاب فإن هذا عمل أهل الجنه فیما یظهر للناس ولو کان عملا صالحا مقبولا للجنه قد أحبه الله ورضیه لم یبطله علیه وقوله لم یبق بینه وبینها إلا ذراع یشکل على هذا التأویل فیقال لما کان العمل بآخره وخاتمته لم یصبر هذا العامل على عمله حتى یتم له بل کان فیه آفه کامنه ونکته خذل بها فی آخر عمره فخانته تلک الآفه والداهیه والباطنه فی وقت الحاجه فرجع إلى موجبها وعملت عملها ولو لم یکن هناک غش وآفه لم یقلب الله إیمانه لقد أورده مع صدقه فیه وإخلاصه بغیر سبب منه یقتضی إفساده علیه والله یعلم من سائر العباد ما لا یعلمه بعضهم من بعض وأما شأن إبلیس فإن الله سبحانه قال للملائکه إنی أعلم مالا تعلمون فالرب تعالى کان یعلم ما فی قلب إبلیس من الکفر والکبر والحسد مالا یعلمه الملائکه فلما أمروا بالسجود ظهر ما فی قلوبهم من الطاعه والمحبه والخشیه والانقیاد فبادروا إلى الامتثال وظهر ما فی قلب عدوه من الکبر والغش والحسد فأبى واستکبر وکان من الکافرین وأما خوف أولیائه من مکره فحق فإنهم یخافون أن یخذلهم بذنوبهم وخطایاهم فیصیرون إلى الشقاء فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته وقوله أفأمنوا مکر الله إنما هو فی حق الفجار والکفار ومعنى الآیه فلا یعصی ویأمن مقابله الله له على مکر السیئات بمکره به إلا القوم الخاسرون والذی یخافه العارفون بالله من مکره أن یؤخر عنهم عذاب الأفعال فیحصل منهم نوع اغترار فیأنسوا بالذنوب فیجیئهم العذاب على غره وفتره وأمر آخر وهو أن یغفلوا عنه وینسوا ذکره فیتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذکره وطاعته فیسرع إلیهم البلاء والفتنه فیکون مکره بهم تخلیه عنهم وأمر آخر أن یعلم من ذنوبهم وعیوبهم ما لا یعلمونه من نفوسهم فیأتیهم المکر من حیث لا یشعرون وأمر آخر أن یمتحنهم ویبتلیهم بما لا صبر لهم علیه فیفتنون به وذلک مکر .
المصدر: الفوائد