ترک الأمر عند الله أعظم من ارتکاب النهى
ترک الأمر عند الله أعظم من ارتکاب النهى
امام ابن القیّم
قال سهل بن عبد الله ترک الأمر عند الله أعظم من ارتکاب النهى لأن آدم نهى عن أکل الشجره فأکل منها فتاب علیه وابلیس أمر أن یسجد لآدم فلم یسجد فلم یتب علیه قلت هذه مساله عظیمه لها شان وهى أن ترک الأوامر أعظم عند الله من أرتکاب المناهى وذلک من وجوه عدیده أحدها ما ذکره سهل من شأن آدم وعدو الله ابلیس الثانی أن ذنب ارتکاب النهى مصدره فى الغالب الشهوه والحاجه وذنب ترک الأمر مصدره فى الغالب الکبر والعزه ولا یدخل الجنه من فى قلبه مثقال ذره من کبر ویدخلها من مات علی التوحید وان زنى وسرق الثالث أن فعل المأمور أحب الى الله من ترک المنهى کما دل على ذلک النصوص کقوله أحب الاعمال الی الله الصلاه على وقتها وقوله ألا أنبئکم بخیر أعمالکم وأزکاها عند ملیککم وأرفعها فى درجاتکم وخیر لکم من أن تلقوا عدوکم فتضربوا أعناقهم ویضربوا أعناقکم قالوا بلی یا رسول الله قال ذکر الله وقوله اعلموا أن خیر أعمالکم الصلاه وغیر ذلک من النصوص وترک المناهى عمل فانه کف النفس عن الفعل ولهذا علق سبحانه المحبه بفعل الأوامر کقوله ان الله یحب الذین یقاتلون فی سبیله صفا والله یحب المحسنین وقوله واقسطوا ان الله یحب المقسطین والله یحب الصابرین وأما فى جانب المناهى فأکثر ما جاء النفی للمحبه وقوله والله لا یحب الفساد وقوله والله لا یحب کل مختال فخور وقوله ولا تعتدوا ان الله لا یحب المعتدین وقوله لا یحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم وقوله ان الله لا یحب من کان مختالا فخورا ونظائره وأخبر فى موضع آخر أنه یکرهها ویسخطها کقوله کل ذلک کان سیئه عند ربک مکروها وقوله ذلک بأنهم اتبعوا ما اسخط الله اذا عرف هذا ففعل ما یحبه سبحانه مقصود بالذات ولهذا یقدر ما یکرهه ویسخطه لافضائه الى ما یحب کما قدر المعاصى والکفر والفسوق لما ترتب علی تقدیرها مما یحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء وحصول التوبه من العبد والتضرع الیه والاستکانه واظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه وحصول المولاه والمعاداه لأجله وغیر ذلک من الآثار التى وجودها بسبب تقدیره ما یکره أحب الیه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها وهو سبحانه لا یقدر ما یحب لافضائه الى حصول ما یکرهه ویسخطه کما یقدر ما یکرهه لافضائه الى ما یحبه فعلم أن فعل ما یحبه احب الیه مما یکرهه یوضحه الوجه الرابع أن فعل المأمور مقصود لذاته وترک المنهى مقصود لتکمیل فعل المأمور فهو منهى عنه لاجل کونه یخل بفعل المأمور أو یضعفه وینقصه کما نبه سبحانه على ذلک فى النهى عن الخمر والمیسر بکونهما یصدان عن ذکر الله وعن الصلاه فالمنهیات قواطع وموانع صاده عن فعل المأمورات أو عن کمالها فالنهى عنها من باب المقصود لغیره والامر بالواجبات من باب المقصود لنفسه یوضحه الوجه الخامس أن فعل المأمورات من باب حفظ قوه الایمان وبقائها وترک المنهیات من باب الحمیه عما یشوش قوه الایمان ویخرجها عن الاعتدال وحفظ القوه مقدم على الحمیه فان القوه کلما قویت دفعت المواد الفاسده وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسده فالحمیه مراد لغیرها وهو حفظ القوه وزیادتها وبقاؤها ولهذا کلما قویت قوه الایمان دفعت المواد الردیئه ومنعت من غلبتها وکثرتها بحسب القوه وضعفها واذا ضعفت غلبت المواد الفاسده فتأمل هذا الوجه الوجه السادس أن فعل المأمورات حیاه القلب وغذاؤه وزینته وسروره وقره عینه ولذته ونعیمه وترک المنهیات بدون ذلک لا یحصل له شیئا من ذلک فانه لو ترک جمیع المنهیات ولم یأت بالایمان والأعمال المأمور بها لم ینفعه ذلک الترک شیئا وکان خالدا فى النار وهذا یتبین بالوجه السابع أن من فعل المأمورات والمنهیات فهو اما ناج مطلقا ان غلبت حسناته سیئاته وإما ناج بعد أن یؤخذ منه الحق ویعاقب على سیئاته فمآله الى النجاه وذلک بفعل المأمور ومن ترک المأمورات والمنهیات فهو هالک غیر ناج ولا ینجو إلا بفعل المأمور وهو التوحید فان قیل فهو انما هلک بارتکاب المحظور وهو الشرک قیل یکفی فى الهلاک ترک نفس التوحید المامور به وان لم یأت بضد وجودى من الشرک بل متی خلا قلبه من التوحید رأسا فلم یوحد الله فهو هالک وان لم یعبد معه غیره فاذا انضاف الیه عباده غیره عذب على ترک التوحید المأمور به وفعل الشرک المنهى عنه یوضحه الوجه الثامن ان المدعو الی الایمان إذا قال لا أصدق ولا أکذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غیره کان کافرا بمجرد الترک والاعراض بخلاف ما اذا قال أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرنی ولکن شهوتی وارادتی وطبعى حاکمه على لا تدعنی أترک ما نهانی عنه وانا أعلم أنه قد نهانی وکره لى فعل المنهى ولکن لا صبر لى عنه فهذا لا یعد کافرا بذلک ولا حکمه حکم الأول فان هذا مطیع من وجه وتارک المأمور جمله لا یعد مطیعا بوجه یوضحه الوجه التاسع ان الطاعه والمعصیه انما تتعلق بالأمر أصلا وبالنهى تبعا فالمطیع ممتثل المأمور والعاصی تارک المأمور قال تعالى لا یعصون الله ما أمرهم وقال موسى لأخیه ما منعک اذ رأیتهم ضلوا أن لا تتبعنی أفعصیت أمرى وقال عمرو بن العاص عند موته أنا الذى أمرتنی فعصیت ولکن لا آله الا أنت وقال الشاعر أمرتک أمرا جازما فعصیتنی والمقصود من إرسال الرسل طاعه المرسل ولا تحصل الا بامتثال أوامره واجتناب المناهی من تمام امتثال الأوامر ولوازمه ولهذا لو اجتنب المناهى ولم یفعل ما أمر به لم یکن مطیعا وکان عاصیا بخلاف ما لو أتی بالمأمورات وارتکب المناهى فانه وان عد عاصیا مذنبا فانه مطیع بامتثال الأمر عاص بارتکاب النهى بخلاف تارک الامر فانه لا یعد مطیعا باجتناب المنهیات خاصه الوجه العاشر ان امتثال الامر عبودیه وتقرب وخدمه وتلک العباده التى خلق لاجلها الخلق کما قال تعالى وما خلقت الجن والأنس الا لیعبدون فاخبر سبحانه أنه انما خلقهم للعباده وکذلک انما أرسل إلیهم رسله وأنزل علیهم کتبه لیعبدوه فالعباده هی الغایه التی خلقوا لها ولم یخلقوا لمجرد الترک فانه أمر عدمى لا کمال فیه من حیث هو عدم بخلاف امتثال المأمور فانه أمر وجودی مطلوب الحصول وهذا یتبین بالوجه الحادی عشر وهو أن المطلوب بالنهى عدم الفعل وهو أمر عدمى والمطلوب بالأمر ایجاد فعل وهو أمر وجودى فمتعلق الامر الایجاد ومتعلق النهى الاعدام أو العدم وهو أمر لا کمال فیه الا اذا تضمن أمرا وجودیا فان العدم من حیث هو عدم لا کمال فیه ولا مصلحه الا اذا تضمن أمرا وجودیا مطلقا وذلک الامر الوجودى مطلوب مأمور به فعادت حقیقه النهى الی الامر وان المطلوب به ما فى ضمن النهى من الامر الوجودى المطلوب به وهذا یتضح بالوجه الثانی عشر وهو ان الناس اختلفوا فى المطلوب بالنهى علی أقوال احدها أن المطلوب به کف النفس عن الفعل وحبسها عنه وهو أمر وجودى قالوا لان التکلیف انما یتعلق بالمقدور والعدم المحض غیر مقدور وهذا قول الجمهور وقال أبو هاشم وغیره بل المطلوب عدم الفعل ولهذا یحصل المقصود من بقائه على العدم وان لم یخطر بباله الفعل فضلا ان یقصد الکف عنه ولو کان المطلوب الکف لکان عاصیا اذا لم یات به ولان الناس یمدحون بعدم فعل القبیح من لم یخطر بباله فعله والکف عنه وهذا أحد قولى القاضی ابی بکر ولاجله التزم أن عدم الفعل مقدور للعبد وداخل تحت الکسب قال والمقصود بالنهى الابقاء على العدم الأصلى وهو مقدور وقالت طائفه المطلوب بالنهى فعل الضد فانه هو المقدور وهو المقصود للناهى فانه انما نهاه عن الفاحشه طلبا للعفه وهى المأمور بها ونهاه عن الظلم طلبا للعدل المأمور به وعن الکذب طلبا للصدق المامور به وهکذا جمیع المنهیات فعند هؤلاء ان حقیقه النهى الطلب لضد لمنهى عنه فعاد الأمر الى ان الطلب انما تعلق بفعل المأمور والتحقیق ان المطلوب نوعان مطلوب لنفسه وهو المأمور به ومطلوب اعدامه لمضادته المأمور به وهو المنهى عنه لما فیه من المفسده المضاده للمأمور به فاذا لم یخطر ببال المکلف ولا دعته نفسه الیه بل استمر على العدم الأصلی لم یثب على ترکه وان خطر بباله وکف نفسه عنه لله وترکه اختیار أثیب عل کف نفسه وامتناعه فانه فعل وجودى والثواب انما یقع علی الأمر الوجودی دون العدم المحض وان ترکه مع عزمه الجازم على فعله لکن ترکه عجزا فهذا وان لم یعاقب عقوبه الفاعل لکن یعاقب على عزمه وارادته الجازمه التى انما تخلف مرادها عجزا وقد دلت على ذلک النصوص الکثیره فلا یلتفت الی ما خالفها کقوله تعالى وإن تبدوا ما فى أنفسکم أو تخفوه یحاسبکم به الله فیغفر لمن یشاء ویعذب من یشاء وقوله فى کاتم الشهاده فانه آثم قلبه وقوله ولکن یؤاخذکم بما کسبت قلوبکم وقوله یوم تبلى السرائر وقوله إذا تواجه المسلمان بسیفهما فالقاتل والمقتول فى النار قالوا هذا القاتل فما بال المقتول قال انه أراد قتل صاحبه وقوله فى الحدیث الآخر ورجل قال لو أن لی مالا لعملت بعمل فلان فهو بنیته وهما فى الوزر سواء وقول من قال ان المطلوب بالنهى فعل الضد لیس کذلک فان المقصود عدم الفعل والتلبس بالضدین فان مالا یتم الواجب الا به فهو غیر مقصود بالقصد الأول وأن کان المقصود بالقصد الأول المامور الذی نهى عما یمنعه ویضعفه فالمنهى عنه مطلوب اعدامه طلب الوسائل والذرائع والمأمور به مطلوب ایجاده طلب المقاصد والغایات وقول أبی هاشم ان تارک القبائح یحمد وان لم یخطر بباله کف النفس فان أراد بحمده انه لا یذم فصحیح وان أراد انه یثنی علیه بذلک ویحب علیه ویستحق الثواب فغیر صحیح فان الناس لا یحمدون المحبوب على ترک الزنا ولا الأخرس على عدم الغیبه والسب وانما یحمدون القادر الممتنع عن قدره وداع الی الفعل وقول القاضی الابقاء علی العدم الأصلى مقدور فان أراد به کف النفس ومنعها فصحیح وان أراد مجرد العدم فلیس کذلک وهذا یتبین بالوجه الثالث عشر وهو أن الأمر بالشیء نهى عن ضده من طریق اللزوم العقلی لا القصد الطلبى فان الأمر انما مقصود فعل المأمور فاذا کان من لوازمه ترک الضد صار ترکه مقصودا لغیره وهذا هو الصواب فى مساله الأمر بالشیء هل هو نهى عن ضده أم لا فهو نهى عنه من جهه اللزوم لا من جهه القصد والطلب وکذلک النهى عن الشیء مقصود الناهى بالقصد الأول الانتهاء عن المنهى عنه وکونه مشتغلا بضده جاء من جهه اللزوم العقلى لکن انما نهى عما یضاد ما أمر به کما تقدم فکان المأمور به هو المقصود بالقصد الاول فى الموضعین وحرف المسأله ان طلب الشیء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم والنهی عن الشیء طلب لترکه بالذات ولفعل ما هو من ضروره الترک باللزوم والمطلوب فى الموضعین فعل وکف وکلاهما أمر وجودی الوجه الرابع عشر ان الأمر والنهى فى باب الطلب نظیر النفی والاثبات فى باب الخبر والمدح والثناء لا یحصلان بالنفى المحض ان لم یتضمن ثبوتا فان النفى کاسمه عدم لا کمال فیه ولا مدح فاذا تضمن ثبوتا صح المدح به کنفى النسیان المستلزم لکمال العلم وبیانه ونفى اللغوب والاعیاء والتعب المستلزم لکمال القوه والقدره ونفى السنه والنوم المستلزم لکمال الحیاه والقومیه ونفى الولد والصاحبه المستلزم لکمال الغنى والملک والربوبیه ونفى الشریک والولى والشفیع بدون الاذن المستلزم لکمال التوحید والتفرد بالکمال والآلهیه والملک ونفى الظلم المتضمن لکمال العدل ونفى ادراک الابصار له المتضمن لعظمته وأنه أجل من أن یدرک وان رأته الأبصار والا فلیس فى کونه لا یرى مدح بوجه من الوجوه فان العدم المحض کذلک واذا عرف هذا فالمنهى عنه ان لم یتضمن أمرا وجودیا ثبوتیا لم یمدح بترکه ولم یستحق الثواب والثناء بمجرد الترک الایستحق المدح والثناء بمجرد الوصف العدمى الوجه الخامس عشر ان الله سبحانه جعل جزاء المامورات عشره أمثال نعلها وجزاء المنهیات مثل واحد وهذا یدل على أن فعل ما أمر به احب الیه من ترک ما نهى عنه ولو کان الأمر بالعکس لکانت السیئه بعشره والحسنه بواحده او تساویا الوجه السادس عشر ان المنهى عنه المقصود اعدامه وأن لا یدخل فی الوجود سواء نوى ذلک أو لم ینوه وسواء خطر بباله أو لم یخطر فالمقصود أن لا یکون وأما المأمور به فالمقصود کونه ایجاد والتقرب به نیه وفعلا وسر المسأله أن وجود ما طلب ایجاده أحب الیه من عدم ما طلب اعدامه وعدم ما أحبه أکره الیه من وجود ما یبغضه فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من کراهته لفعل ما نهى عنه یوضحه الوجه السابع عشر ان فعل ما یحبه والاعانه علیه وجزاؤه وما یترتب علیه من المدح والثناء من رحمته وفعل مایکره وجزاؤهما یترتب علیه من الذم والألم والعقاب من غضبه ورحمته سابقه على غضبه غالبه له وکل ما کان من صفه الرحمه فهو غالب لما کان من صفه الغضب فانه سبحانه لا یکون إلا رحیما ورحمته من لوازم ذاته کعلمه وقدرته وحیاته وسمعه وبصره وإحسانه فیستحیل أن یکون على خلاف ذلک ولیس کذلک غضبه فانه لیس من لوازم ذاته ولا یکون غضبانا دائما غضبا لا یتصور انفکاکه بل یقول رسله وأعلم الخلق به یوم القیامه إن ربی قد غضب الیوم غضبا لم یغضب قبله مثله ولن یغضب بعده مثله ورحمته وسعت کل شیء وغضبه لم یسع کل شیء وهو سبحانه کتب علی نفسه الرحمه ولم یکتب على نفسه الغضب ووسع کل شیء رحمه وعلما ولم یسع کل شیء غضبا وانتقاما فالرحمه وما کان بها ولوازمها وآثارها غالبه على الغضب وما کان منه وآثاره فوجود ما کان بالرحمه أحب الیه من وجود ما کان من لوازم الغضب ولهذا کانت الرحمه احب الیه من العذاب والعفو أحب الیه من الانتقام فوجود محبوبه أحب الیه من فوات مکروهه ولا سیما اذا کان فى فوات مکروهه فوات ما یحبه من لوازمه فانه یکره فوات تلک اللوازم المحبوبه کما یکره وجود ذلک الملزوم المکروه الوجه الثامن عشر ان أثار ما یکرهه وهو المنهیات أسرع زوالا بما یحبه من زوال آثار ما یحبه بما یکرهه فآثار کراهته سریعه الزوال وقد یزیلها سبحانه بالعفو والتجاوز وتزول لتوبه والاستغفار والأعمال الصالحه والمصائب الکفره والشفاعه والحسنات یذهبن والسیئات ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقیه بقراب الأرض خطایا ثم لقیه لا یشرک به شیئا لأتاه بقرابها مغفره وهو سبحانه یغفر الذنوب وان تعاظمت ولا یبالى فیبطلها ویبطل آثارها بأدنى سعى من العبد وتوبه نصوح وندم علی ما فعل وما ذاک الا لوجود ما یحبه من توبه العبد وطاعته وتوحیده فدل علی أن وجود ذلک أحب الیه وأرضی له یوضحه الوجه التاسع عشر وهو انه سبحانه قدر ما یبغضه ویکرهه من المنهیات لما یترتب علیها مما یحبه ویفرح به من المأمورات فأنه سبحانه أفرح بتوبه عبده من الفاقد الواجد والعقیم الوالد والظمآن الوارد وقد ضرب رسول الله لفرحه بتوبه العبد مثلا لیس فى المفروح به أبلغ منه وهذا الفرح إنما کان بفعل المأمور به وهو التوبه فقدر الذنب لما یترتب علیه من هذا الفرح العظیم الذى وجوده أحب الیه من فواته ووجوده بدون لازمه ممتنع فدل على أن وجود ما یحب أحب الیه من فوات ما یکره ولیس المراد بذلک أن کل فرد من أفراد ما یحب أحب الیه من فوات کل فرد مما یکره حتى تکون رکعتا الضحى أحب الیه من فوات قتل المسلم وانما المراد أن جنس فعل المأمورات افضل من جنس ترک المحظورات کما اذا فضل الذکر علی الأنثى والانسى على الملک فالمراد الجنس لا عموم الأعیان والمقصود أن هذا الفرح الذى لا فرح یشبهه فعل مأمور التوبه یدل على أن هذا المأمور أحب الیه من فوات المحظور الذى تفوت به التوبه وأثرها ومقتضاها فان قیل انما فرح بالتوبه لانها ترک للمنهى فکان الفرح بالترک قیل لیس کذلک فان الترک المحض لا یوجب هذا الفرح بل ولا الثواب ولا المدح ولیست التوبه ترکا وان کان الترک من لوازمها وانما هى فعل وجودى یتضمن اقبال التائب على ربه وإنابته الیه والتزام طاعته ومن لوازم ذلک ترک ما نهى عنه ولهذا قال تعالى وأن استغفروا ربکم ثم توبوا الیه فالتوبه رجوع مما یکره الى ما یحب ولیست مجرد الترک فان من ترک الذنب ترکا مجردا ولم یرجع منه الى ما یحبه الرب تعالى لم یکن تائبا فالتوبه رجوع واقبال وانابه لا ترک محض الوجه العشرون ان المأمور به اذا فات فاتت الحیاه المطلوبه للعبد وهى التی قال تعالى فیها یا أیها الذین آمنوا استجیبوا لله وللرسول اذا دعاکم لما یحییکم وقال أو من کان میتا فأحییناه وجعلنا له نورا یمشی به فى الناس کمن مثله فى الظلمات وقال فى حق الکفار أموات غیر أحیاء وقال انک لا تسمع الموتى وأما المنهى عنه فغایته أن یوجد المرض وحیاه مع السقم خیر من موت فان قیل ومن المنهى عنه ما یوجب الهلاک وهو الشرک قیل الهلک انما حصل بعدم التوحید المأمور به الحیاه فلما فقد حصل الهلاک فما هلک إلا من عدم اتیانه بالمأمور به وهو وهذا وجه حاد وعشرون فى المسأله وهو أن فى المأمورات ما یجب فواته الهلاک والشقاء الدائم ولیس فى المنهیات ما یقتضی ذلک الوجه الثانی والعشرون ان فعل المأمور یتضى ترک المنهى عنه اذا فعل علی وجهه من الاخلاص والمتابعه والنصح لله فیه قال تعالى إن الصلاه تنهى عن الفحشاء والمنکر ومجرد ترک المنهى لا یقتضی فعل المأمور ولا یستلزمه الوجه الثالث والعشرون ان ما یحبه من المأمورات فهو متعلق بصفاته وما یکرهه من المنهیات فمتعلق بمفعولاته وهذا وجه دقیق یحتاج الى بیان فنقول المنهیات شرور وتفضی الی شرور والمأمورات خیر وتفضی الی الخیرات والخیر بیدیه سبحانه والشر لیس الیه فان الشر لا یدخل فى صفاته ولا فى أفعاله ولا فى أسمائه وانما هو من المفعولات مع أنه شر بالاضافه والنسبه الی العبد والا من حیث إضافته ونسبته الی الخالق سبحانه فلیس بشر من هذه الجهه فغایه ارتکاب النهى ان یوجب شرا بالاضافه الی العبد مع انه فى نفسه لیس بشر وأما فوات المأمور فیفوت به والخیر الذى بفواته یحصل ضده من الشر وکلما کان المأمور أحب الى الله سبحانه کان الشر الحاصل بفواته أعظم کالتوحید والایمان وسر هذه الوجوه أن المأمور محبوبه والمنهى مکروهه ووقوع محبوبه أحب الیه من فوات مکروهه وفوات محبوبه أکره الیه من وقوع مکروهه والله أعلم .
المصدر : الفوائد