التغییر الثوری فی رؤیه قرآنیه

التغییر الثوری فی رؤیه قرآنیه

الثورات نموذج للحساب الأصغر

أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِی*

  ألهمت ثورتا الشعبین فی تونس الخضراء (۱۴ ینایر ۲۰۱۱م)، ومصر الکنانه (۲۵ ینایر ۲۰۱۱م) الشعوب وقاده الرأی والتغییر فیها جمله من الأفکار والرؤى والمسارات الحضاریه العملیه، یجزم صاحب هذه السطور أن بعضها على الأقل لم یکن متوافراً على ذلک النحو من الوضوح والقوّه والثقه، وهو ما یستدعی دراسه تلک الظواهر، والسعی نحو استخلاص الدروس، کی لا تضیع فی غمره الفرحه تاره، وفی ظل الحرص على استعاره الفکره کامله تاره أخرى، وذلک کی یتم البناء على کل إیجابی مفید فیها.

 

ومن الخطأ أن ینقدح فی أذهان الکثیر منّا أن مفرده الثوره مصحوبه عاده بحمل السلاح والمواجهه العسکریه، فثمّه ثلاث ثورات رئیسه ناجحه –على الأقل- فی عالمنا العربی والإسلامی- ناهیک عن غیره- أثبتت وجهاً آخر للثوره السلمیه.

 

أمّا الأولى فالثوره الإسلامیه فی إیران عام ۱۹۷۹م، وأمّا الثانیه فثوره تونس، والثالثه مصر، والثورتان الأخیرتان لا نزال نشاهد بقیّه المشاهد فیهما حتى اللحظه، وستظل ثمارهما تقطف على مدى غیر قریب. ومن یتعامل مع مصدر المعرفه المعصوم (القرآن الکریم) فسیکتشف توصیفاً لحال الإنسان (الفرد) أو الإنسان (الجماعه)، فی أوضاع الاستقرار وأحوال الاضطراب، وتحلیلاً عمیقاً لأحوال الطغاه والمستضعفین، وإرشاداً قویماً لمنهج التعامل فی تغییر ما بالأنفس، کی تتغیر جمله الأحوال، تبعاً لذلک: {إن الله لا یغیّر ما بقوم حتى یغیّروا ما بأنفسهم} (الرعد: ۱۱)

 

إحساس الشعوب لا یموت ووعیها فی تنام مضطرد

مهما قیل عن أوضاع الاستقرار (Stability) التی تعیشها مجتمعاتنا فإنها کلها تقریباً تعانی أوضاعاً من القهر والقبضه الحدیدیه –على تفاوت بینها بطبیعه الحال- لا تنطلی على حرّ، بل قد لا تقنع الحکّام أنفسهم- فی حقیقه الأمر- مهما صوّرت لهم حواشیهم ذلک.

 

وحین قال طاغیه تونس المخلوع (ابن علی) فی الوقت الضائع –على سبیل المثال- (فَهِمْتک ) أو قال فرعون مصر (مبارک) غیر المأسوف علیه (أعی مطالبکم) حین لا ینفع الوعی؛ فإن ذلک لیؤکّد حقیقه أنّهم یعلمون جمله الحقیقه فی المعاناه ذات الأبعاد المختلفه، ولکنهم یستکبرون.

 

لا نرید أن نشایع تهمه القطیع التی یصف بها البعض تلک النفوس، ولکن بات من المؤکَّد أنّه إذا اندلعت شراره التمرّد، فسیدرک الجمیع حجم المعاناه ومستوى الانحدار فی الحیاه الآدمیه، ذلک أن الإنسان- فی أصله- کائن مفکّر مبدع منتج ولیس مجرّد آله صماء مستجیبه لأی مثیر، أو حیوان مستهلک لجمله احتیاجات غریزیه فی یومه ولیلته کأی حیوان بیولوجی آخر!.

 

 وإذا کانت أقدار الله وسننه التی شاهدنا جانباً منها فی ثورتی تونس ومصر قد قضت بـأن (لکل أجل کتاب) ( الرعد: ۳۸)؛ فإن ذلک یعنی أن للصبر حدوداً، وأنّه متى طفح الکیل أو بلغ السیل الزبى؛ فلا أحد یستطیع أن یتحکّم بمسار الأمور، حتى من الحریصین والمشفقین المحبین على بقاء الأمور على وضعها، أو على إصلاحها على نحو هادئ بعیداً عن الثوره وضروراتها.

 

وما هذه العدوى التی انتقلت کانتقال النّار فی الهشیم إلى أعتى النظم الاستبدادیه فی المنطقه، کالنظام اللیبی – مثلاً- على هذا النحو الهادر إلا دلیل جدید على أن التغییر آتٍ ریب فیه.

 

قد کان ثمّه اتهام یصل إلى حدّ جلد الذات بأن الإنسان العربی أو المسلم مات فی إحساسه، ولم یعد لدیه من الممانعه ما یجعله یرفع رأسه قائلاً للطاغیه قف، فقد تجاوزتَ الحدود، کما کنا نشاهده لدى الغربیین والأسیویین والأفارقه غیر العرب وسواهم؛ فإذا بثورتی تونس والجزائر یؤکّدان أن ذلک وهم سرعان ما انقشعت غشاوته، وتبین بالقطع بأنّه متى تمکّن الإنسان من کسر حاجز الخوف، عربیاً کان أم غربیاً، فإنه لا فرق من هذه الزاویه، ساعتئذٍ، بل إن العربی المسلم یجد دافع ذلک أکثر من وحی من عقیدته وثقافته وتربیته الأصیله، وکم من المشاهد والصور تتراءى أمامنا، حتى من أفراد أو فئات کانت مصنفه على أنظمه القمع هنالک.

 

وإذا تذکّرنا الصوره الأخرى التی خرجت بعد انتصار الثوره فی تونس أو مصر لتبرّر مسلکها مع الطاغیه، وأنها کانت واحده من ضحایاه،؛ فإن ذلک إنما یؤکّد أن تلک أنواع من بنی البشر ظلت مقهوره، ولم تلحق برکب سفینه الحرّیه، کما فعل السواد الأعظم من أبناء الشعب، وسیتم إفراد الحدیث على نحو أکثر توضیحاً فی درس (سقوط المثقّف السلطوی).

 

 رفض الاستعلاء فی الأرض

الثوره فکره ومبدأ وحرکه، مدخلها الأساس: التفکیر الواعی لدى الإنسان، الکائن المستخلف الوحید: {وإذ قال ربّک للملائکه إنی جاعل فی الأرض خلیفه، قالوا أتجعل فیها من یفسد فیها ویسفک الّدماء ونحن نسبّح بحمدک ونقدّس لک، قال إنی أعلم مالا تعلمون. وعلّم آدم الأسماء کلّها ثمّ عرضهم على الملائکه فقال أنبئونی بأسماء هؤلاء إن کنتم صادقین. قالوا سبحانک لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنک أنت العلیم الحکیم. قال یا آدم أنبئهم بأسمائهم فلّما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لکم إنی أعلم غیب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما کنتم تکتمون} ( البقره:۳۰-۳۳).

 

وباعثها الجوهری:الإیمان بقیمه الإنسان وتکریمه على کثیر من المخلوقات {ولقد کرّمنا بنی آدم وحملناهم فی البرّ والبحر ورزقناهم من الطیّبات، وفضلناهم على کثیر ممن خلقنا تفضیلاً} (الإسراء: ۷۰).

 

ومخرجها الکلی تقریر حقّه فی الحریّه والفکر بالطریقه التی یختارها: {قل إنّما أعظکم بواحده أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمّ تتفکروا ما بصاحبکم من جنّه..} (سبأ: ۴۶)، لیحقق الهدف الأسمى من وجوده وهو أن یختار بمحض إرادته – وحده- منهجه فی الحیاه، ومصیره الکلی والجزئی فی الدنیا والآخره:

 

{وکل إنسان ألزمناه طائره فی عنقه ونخرج له یوم القیامه کتاباً یلقاه منشوراُ، اقرأ کتابک کفى بنفسک الیوم علیک حسیباً} (الإسراء: ۱۳-۱۴)، {قل کل یعمل على شاکلته فربکم أعلم بمن هو أهدى سبیلاً} (الإسراء: ۸۴ )، {لا إکراه فی الدین قد تبین الرشد من الغی} [ البقره: ۲۵۶]، {وقل الحق من ربکم فمن شاء فلیؤمن ومن شاء فلکفر…}(الکهف: ۲۹)

 

ومن ثمرات هذا المخرج: رفض الاستعلاء فی الأرض، والإفساد فی الکون من أیّ کائن یعیش على وجه البسیطه، لأن ذلک الإفساد –کما الإصلاح- عملیه متعدّیه تنعکس على النّاس جمیعاً: {من أجل ذلک کتبنا على بنی إسرائیل أنّه من قتل نفساً بغیر نفس أو فساد فی الأرض فکأنما قتل النّاس جمیعا، ومن أحیاها فکأنما أحیا النّاس جمیعاً} ( المائده: ۳۲)، لتتحقق بذلک وراثه الإنسان الاستخلافیه البانیه بعد الاستضعاف والهوان: {ونرید أن نمُن على الذین استضعفوا فی الأرض ونجعلهم أئمه ونجعلهم الوارثین. ونمکِّن لهم فی الأرض، ونری فرعون وهامان وجنودهما منهم ما کانوا یحذرون) (القصص: ۰-۶).

 

 وذلک هو الاستعمار المطالب به الإنسان: {هو أنشأکم من الأرض واستعمرکم فیها} ( هود:۶۱).

 

 وبذلک یتأکّد للمستضعفین أن معاناتهم لن تدوم، لأن ذلک ضدّ ناموس الوجود، إذ سرعان ما تتغیر الأحوال، وإذا بالطغاه وزبانیتهم یعانون -فی کل عصر ومصر- معاناه نفسیه وروحیه حیناً وجسمیه واجتماعیه وسواها حیناً آخر، إذ الأیام دول بین الناس، ولیست مُلکاً أبدیاً خالدا لهم، ولو دامت لغیرهم ما وصلت إلیهم: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن کنتم مؤمنین. إن یمسسکم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله، وتلک الأیام نداولها بین النّاس} (آل عمران: ۱۳۹- ۱۴۰)

{ولا تهنوا فی ابتغاء القوم إن تکونوا تألمون فإنهم یألمون کما تألمون وترجون من الله ما لا یرجون} (النساء:۱۰۴ )

والحکماء لا ینشدون الثوره ابتداء، ولا یحرصون على التمرّد لذاته، لأن أحداً لا یدری إلى أین سیفضی ذلک؟ وما حجم کلفته بیقین؟ بل یسعون لإصلاح الأوضاع عبر التناصح والتحاور والنقد البنّاء، ولکن ما السبیل حین یصم آذان ذوی القرار أسماعهم، فلا یحبّون أن یستمعوا سوى المدائح والمناقب وحدیث المنجزات؟ ولو کانت الحقیقه بخلاف ذلک إلى حدّ کبیر، إذ یزیّن لهم رعاعهم وحواشیهم أن کل شیء على ما یرام، وأن من یزعم خلاف ذلک متآمرون أشرار، ومن ثمّ ینطلق الملأ فی کل اتجاه للإعلان عن نعمه الاستقرار، والإشاده بالإنجازات العملاقه، والتحذیر من الناصحین المخلصین بوصفهم شرذمه قلیله حاقده، کما قال سیّدهم الأول: {إن هؤلاء لشرذمه قلیلون. وإنهم لنا لغائظون. وإنا لجمیع حاذرون} ( الشعراء: ۵۴-۵۶).

ومع أن هؤلاء الرّعاع والحواشی هم أول من یعلن –بعد انتصار ثورات الشعوب- أنّه کان مجرّد عبد مأمور، لا حول له ولا قوّه، وأن ذلک کان مطلوباً منه، وإلا فإن حیاته ورزقه ومستقبل عیاله فی خطر؛ إلا أنّ ذلک یأتی بعد أن ینکشف کل شیء، وکأننا أمام مشهد مصغّر لـ(یوم الحساب): {إذ تبرّأ الذین اتبَّعُوا من الذین اتُبِّعُوا، ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب. وقال الذین اتبّعُوا لوا لو أن لنا کرّه فنتبرأ منهم کما تبرّؤا منّا، کذلک یریهم الله أعمالهم حسرات علیهم، وما هم بخارجین من النار} (البقره:۱۶۶-۱۶۷).

 نعم إن ضریبه الثوره باهضه غالباً، ومسارها قد لا یکون مضموناً دائماً، لکن حین تنغلق کل الأبواب التی کانت مشرعه، وتوصد جمیع وسائل النصح والتحاور، ویغدو العنف الرسمی هو وحده لغه الحاکم ومنهجه، فما حیله المضطر بعد ذلک إلا رکوب الصعاب، وغالباً ما تأتی نتائج الثورات السلمیه الناضجه مثمره مشبعه، إذا حافظ علیها صانعوها، ولم یتساهلوا فی حمایتها، أو أخلدوا إلى الاسترخاء بعد تحقیق هدفها الرئیس، لیأتی الانتهازیون والمرتزقه کالعاده فیرکبوا موجتها ویسرقوها، وصدق القائل: "یخطّط للثورات المفکرون، وینفّذها الأبطال، ویرثها المرتزقه أو الأنذال".

   إن عملیه الثوره ومخرجاتها أشبه بالشجره المورفه ذات الثمره المغدقه، إذا أحسن رعایتها وتربیتها، ومن ثمّ قطافها، دون أن تترک للحیوانات السائبه، أو الحشرات السامه، أو حتى الأیادی العابثه من بنی الإنسان، فتذبل وتتلاشى، ویذهب – من ثّمَ- جهد المزارع ووقته هباء، وکذلکم الثوره لن تؤتی مخرجاتها المرجوّه ما لم تستخلص منها الحقائق أولاً، والبناء علیها ثانیاً، لاسیما لدى تلک الشعوب التوّاقه الأخرى إلى صناعه الثوره، حین تتشکل جمله معطیات مشابهه، تفرض ذاتها على أبنائها، وبذلک یبرز جوهر الدرس المعرفی والأخلاقی والتربوی والاجتماعی والسیاسی الشامل، لاسیما وأن الثورات تلتقی عاده فی مبدأ الباعث المجمل، وإن اختلفت بعد ذلک فی تفاصیل المشهد وجزئیاته، تبعاً لجمله الظروف وطبیعه المجتمع.

 __________________________________________

* أستاذ أصول التربیه وفلسفتها، کلیه التربیه – جامعه صنعاء / اسلام انلاین

addaghashi@yemen.net.ye