نظرات فی فقه جماعات العنف
نظرات فی فقه جماعات العنف
د. یوسف القرضاوی
إن العنف الذی تمارسه بعض الجماعات التی
تنسب للإسلام، إنما هو إفراز لفلسفه معینه تتبناها هذه الجماعات، وثمره لفقه خاص
له وجهته ومفاهیمه وأدلته التی تستند إلیها هذه الفئه من الناس.
ومن نظر إلى جماعات العنف القائمه الیوم فی
عالمنا العربی مثلا وجد لها فلسفتها ووجهه نظرها وفقهها الذی تدعیه لنفسها وتسنده
بالأدله من القرآن والسنه ومن أقوال بعض العلماء.
صحیح أنها تعتمد على المتشابهات وتدع
المحکمات، وتستند إلى الجزئیات وتهمل الکلیات، وتتمسک بالظواهر وتغفل المقاصد، کما
تغفل ما یعارض هذه الظواهر من نصوص وقواعد، وکثیر ما تضع الأدله فی غیر موضعها،
وتخرجها عن سیاقها وإطارها، ولکن -على أیه حال- لها فقه مزعوم یبرر العنف، ویروج
لدى بعض الأغرار من الشباب والسطحیین من الناس الذین یقفون عند السطوح ولا یغوصون
فی الأعماق، وأساسه فقه الخوارج قدیما الذین کانوا یقرءون القرآن لا یجاوز
حناجرهم.
البدایه بالأوطان!
بدأت هذه الجماعات العنف فی داخل أوطانها
أنفسها، أی العنف ضد الأنظمه الحاکمه. فعلى أی أساس بررت ذلک وأجازته من الوجهه
الشرعیه، فی نظرها على الأقل؟:
إن فقه جماعات العنف یقوم على أن الحکومات
المعاصره حکومات کافره، لأنها لم تحکم بما أنزل الله، واستبدلت بشریعته المنزله من
الخالق القوانین التی وضعها المخلوق، وبهذا وجب الحکم علیهم بالکفر والرده،
والخروج من المله، ووجب قتالها حتى تدع السلطه لغیرها، إذ کفرت کفرا بواحا عندهم
فیه من الله برهان.
ویؤکد فقه هذه الجماعات کفر هذه الأنظمه
الحاکمه بأمر آخر، وهو أنها توالی أعداء الله من الکفار الذین یکیدون للمسلمین،
وتعادی أولیاء الله من دعاه الإسلام الذین ینادون بتحکیم شرع الله تعالى، وتضطهدهم
وتؤذیهم، والله تعالى یقول: (ومن یتولهم منکم فإنه منهم) [المائده:۵۱].
والحکومات المعاصره تعارض هذه التهم بدعاوى
مختلفه، منها: أنها تعلن أن دینها الرسمی هو الإسلام، وأنهم ینشئون المساجد لإقامه
الصلاه، ویعینون الأئمه والخطباء والمؤذنین، ویؤسسون المعاهد الدینیه، والکلیات
الشرعیه، ویوظفون الوعاظ ومدرسی الدین فی المدارس وغیرها، ویحتفلون برمضان وعیدی
الفطر والأضحى، ویذیعون تلاوه القرآن فی الإذاعات والتلفازات، إلى غیر ذلک من
المظاهر الدینیه، التی تثبت إسلامیه الدوله بوجه من الوجوه.
کما أن بعض دساتیر هذه البلاد یعلن أن
الشریعه مصدر رئیس أو المصدر الرئیس للتقنین، وبعضها یعتذر بضعفه أمام قوى الضغط
الغربی، وبعضها وبعضها…
فهمهم لابن تیمیه
کما تعتمد جماعات العنف على فتوى الإمام ابن
تیمیه فی قتال کل فئه تمتنع عن أداء شریعه ظاهره متواتره من شرائع الإسلام،
کالصلاه أو الزکاه أو الحکم بما أنزل الله فی الدماء والأموال والأعراض أو الأمر
بالمعروف والنهی عن المنکر، إلى آخره. وهو ما اعتمد علیه کتاب (الفریضه الغائبه)
لجماعه الجهاد فی مصر، وجعل هذه الفتوى الأساس النظری لقیام تلک الجماعه، وتسویغ
أعمالها کلها.
ویستدلون أیضا بقتال أبی بکر ومن معه من
الصحابه رضی الله عنهم لمانعی الزکاه، فکیف بمن یمتنعون عن تطبیق أکثر أحکام
الشریعه، برغم مطالبه جماهیر الناس بها، بل هم أشد الناس خصومه لهؤلاء، وتضییقا
علیهم، ومعاداه لهم؟!
ونسی هؤلاء أن الذی یقاتل هذه الفئه
الممتنعه ولی الأمر، ولیس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى!.
الطعن فی شرعیه الأنظمه
وتعتمد جماعات العنف أیضا على أن هذه
الأنظمه غیر شرعیه، لأنها لم تقم على أساس شرعی من اختیار جماهیر الناس لها، أو
اختیار أهل الحل والعقد، وبیعه عموم الناس، فهی تفتقد الرضا العام، الذی هو أساس
الشرعیه، وإنما قامت على أسنه الرماح بالتغلب والسیف والعنف. وما قام بقوه السیف
یجب أن یقاوم بسیف القوه، ولا یمکن أن یقاوم بسیف القلم!.
ونسی هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قدیم: إن
التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطه، إذا استقر له الوضع ودان له الناس.
وهذا ما فعله عبد الملک بن مروان، بعد
انتصاره على ابن الزبیر رضی الله عنه، وقد أقره الناس، ومنهم بعض الصحابه مثل ابن
عمر وأنس وغیرهما، حقنا للدماء ومنعا للفتنه، وقد قیل: سلطان غشوم خیر من فتنه
تدوم. وهذا من واقعیه الفقه الإسلامی، ورعایته لتغیر الظروف.
تغییرهم للمنکر بالید
وترى جماعات العنف کذلک أن هذه المنکرات
الظاهره السافره -التی تبیحها هذه الحکومات- من الخمر والمیسر والزنا والخلاعه
والمجون والربا وسائر المحظورات الشرعیه: یجب أن تغیر بالقوه لمن یملک القوه، وهی
ترى أنها تملکها، فلا یسقط الوجوب عنها إلى التغییر باللسان بدل الید، کما فی
الحدیث الشهیر: “من رأى منکم منکرا فلیغیره بیده، فإن لم یستطع فبلسانه، ومن
لم یستطع فبقلبه، وذلک أضعف الإیمان” رواه مسلم.
ویغفل هؤلاء الضوابط والشروط اللازمه لتغییر
المنکر بالقوه التی قررها العلماء.
تکفیرهم للمجتمعات
وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع کله أنه
یأخذ حکم هذه الأنظمه التی والاها ورضی بها، وسکت عنها، ولم یحکم بکفرها، والقاعده
التی یزعمونها: أن من لم یکفِّر الکافر فهو کافر!.
وبهذا توسعوا وغلوا فی التکفیر وکفروا الناس
بالجمله.
وعلى هذا لا یبالون من یقتل من هؤلاء
المدنیین الذین لا ناقه لهم فی الحکومه ولا جمل؛ لأنهم کفروا فحلت دماؤهم وأموالهم!.
کما یرون بالنظر إلى الأقلیات غیر المسلمه
أنهم نقضوا العهد بعدم أدائهم للجزیه، وبتأییدهم لأولئک الحکام المرتدین وأنظمتهم
الوضعیه، ولرفضهم للشریعه الإسلامیه، وبهذا لم یعد لهم فی أعناق المسلمین عهد ولا
ذمه، وحل دمهم ومالهم. وبهذا استحلوا سرقه محلات الذهب من الأقباط فی مصر، کما
استحلوا سرقه بعض المسلمین أیضا.
استباحه دماء السیاح
وهم یرون أن السیاح وأمثالهم الذین یدخلون
بلاد المسلمین بتأشیرات رسمیه، وترخیصات قانونیه، والذین یعدّهم الفقهاء
(مستأمنین) ولو کانت دولهم محاربه للمسلمین، یرون هؤلاء مستباحی الدم، لأنهم لم
یأخذوا الإذن من دوله شرعیه؛ لأن بلادهم نفسها محاربه للإسلام، فلا عهد بینهم وبین
المسلمین. والواجب أن یقاتل هؤلاء ویقتلوا، فلا عصمه لدمائهم وأموالهم!.
وکذلک یقول هؤلاء عن الدول الغربیه -التی
یقیم بعض هؤلاء فیها- وقد أعطتهم حق الأمان أو حق اللجوء السیاسی لمن طردوا من
بلادهم الأصلیه، فآوتهم هذه الدول من تشرد، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف، یقول
هؤلاء بکل جرأه وتبجح: “إن هذه الدول کلها کافره محاربه للإسلام وأمته، ویجب
أن نقاتلهم جمیعا حتى یُسلموا فیَسلَموا، أو یعطوا الجزیه عن ید وهم صاغرون”.
ولما سئل بعضهم عن إقامته فی هذه البلاد،
قال: “إنها کدوره المیاه، نستخدمها للضروره رغم نجاستها! وهؤلاء الکفار
دماؤهم حلال، وأموالهم حلال للمسلمین، بنصوص الدین”.
ویذکرون هنا آیات وأحادیث یضعونها فی غیر
موضعها، فإذا واجهتهم بغیرها من الآیات والأحادیث التی هی أکثر منها وأظهر وأصرح،
قالوا لک: هذه نسختها آیه السیف!.
هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذی على
أساسه ارتکبوا ما ارتکبوا من مجازر تشیب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها
الأبدان، ضد مواطنیهم من مسلمین وغیر مسلمین، وضد السیاح وغیرهم من الأجانب
المسالمین.
وهو بلا ریب فقه أعوج، وفهم أعرج، یعتوره
الخلل والخطل من کل جانب. ویحتاج من فقهاء الأمه إلى وقفه علمیه متأنیه لمناقشتهم
فی أفکارهم هذه، والرد علیهم فیما أخطئوا فیه فی ضوء الأدله الشرعیه من القرآن
والسنه وإجماع الأمه.
المصدر: اخوان ان لاین