'' أیها الإنسان ما أنت ؟ ''
” أیها الإنسان ما أنت ؟ ” *
حسن البناء
" یا أیها الإنسان ما غرک بربک الکریم * الذى خلقک فسواک فعدلک * فى أى صوره ما شاء رکبک " ( الانفطار ۶ – ۸ ) .
أیها الإنسان ما أنت ؟
أما نحن المؤمنون المصدقون فنقول : أنت لطیفه ربانیه ونفحه قدسیه وروح من أمر الله ، خلقک بیدیه ، ونفخ فیک من روحه ، وفضلک على کثیر من خلقه ، وأسجد لک ملائکته ، وعلمک الأسماء کلها ، وعرض علیک الأمانه فحملتها ، وأسبغ علیک نعمه ظاهره وباطنه ، وسخر لک ما فى السماوات وما فى الأرض جمیعاً منه ، وکرمک أعظم تکریم ، فخلقک فى أحسن تقویم ، وأعدک أکمل إعداد ، ووهب لک السمع والبصر والفؤاد ، وأوضح لک الطریقین ، وهداک النجدین ، ویسر لک السبیل ، فأنت بإذنه وصنعته تغوص فى الماء ، وتطیر فى الهواء ، وتسابق الکهرباء ، وتحطم الذرات ، وتتجاوز بتفکیرک وتقدیرک أقطار السماوات ..
فهل رأیت أجل وأعظم وأطهر وأکرم ؟
دواؤک فیک وما تبصر وداؤک منک وما تشعر
أتزعم أنک جرم صغیر وفیک انطوى العالم الأکبر ؟ (۱)
وأنت بعد هذه الحیاه القصیره خالد لا تبید ، تحیا وتنشر ، وتبعث وتحشر ، وتستأنف حیاه الکرامه فى دار النعیم والمقامه ، إن کنت أدرکت سر مهمتک فى الوجود فأخلصت العمل للملک المعبود " وما خلقت الجن والإنس إلا لیعبدون * ما أرید منهم من رزق وما أرید أن یطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوه المتین " ( الذاریات : ۵۶ – ۵۷ ) .
وما الموت الذى تخشاه إلا نقله من هذه الحیاه إلى تلک الحیاه " وإن الدار الآخره لهى الحیوان لو کانوا یعلمون " ( العنکبوت : ۶۴ ) ، وما هذا الجسم إلا قفص أنت فیه من المسجونین ، وثوب تخلعه إلى حین ، ثم یعود إلیک یوم الدین ، ورحم الله العارف إذ یقول :
أنا عصفور وهذا قفص طرت عنه وبقى مرتهنا
أنا فى الصور وهذا جسدى کان ثوبى وقمیصى زمنا
وأنا الآن أناجى ملأ وأرى الله جهاراً علنا
لا تظنوا الموت موتاً إنه لیس إلا نقله من هاهنا (۲)ویقول المادیون الجدلیون : أنت أیها الإنسان حفنه من تراب ، ونطفه من أصلاب ، قذفت بک الأرحام وأفنتک الأیام ، وابتلعتک الرجام ، ثم لا شئ بعد ذلک ، من یحیى العظام وهو رمیم ؟
کذلک قال قدماؤهم " ما هى إلا حیاتنا الدنیا نموت ونحیا وما یهلکنا إلا الدهر " ( الجاثیه : ۲۴ ) ، وهکذا قال محدثوهم : أثر أنت من تفاعل العناصر المادیه والتطورات الفسیولوجیه ، فالشعور والوجدان والفکر والإدراک والعزم والإراده کل أولئک من آثار الماده الصماء ، ونتائج اختلاط التراب بالماء ، وما الحیاه إلا هذه الأیام المعدودات ، تقضى فیها اللبنات ، وتنتهز الفرص للذات .
إنما الدنیا طعام وشراب ومنام
فإذا فاتک هذا فعلى الدنیا سلام
تلک یا أخى قضیه الحیاه ، إن أمعنت فیها النظر ، وأجلت فیها الفکر ، ولم تکن من الغاوین المستهترین بوجودهم ، المحتقرین لإنسانیتهم .. استطعت أن تحدد فى الوجود غایتک ، وأن تتبین وسیلتک .
وکل الذى أنصح لک به أن تخلو إلى نفسک ساعه من لیل أو نهار ، لترى أفضل الرأیین ، وأثر الخطتین فى حیاه الفرد والجماعه ، حتى إذا اقتنعت بالرأى الأول وهو الفطره أقبلت على نفسک ، فاستکملت فضائلها ، وسموت بها عن سفاسف الأمور وصغار الغایات ، ووصلتها بربها العلى الأعلى ، وطهرتها بذکره وطاعته ومراقبته وخشیته ، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه ..
قد رشحوک لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسک أن ترعى مع الهمل
ولا تستغرب أن یختار بعض الناس الرأى الثانى ، فهى الفتنه أو الهدایه " واتل علیهم نبأ الذى آتیناه آیاتنا فانسلخ منها فأتبعه الشیطان فکان من الغاوین * ولو شئنا لرفعناه بها ولکنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله کمثل الکلب إن تحمل علیه یلهث أو تترکه یلهث ذلک مثل القوم الذین کذبوا بآیاتنا فاقصص القصص لعلهم یتفکرون " ( الأعراف : ۱۷۵ – ۱۷۶ ) .
ألهمنا الله وإیاک الرشد وهدانا سواء السبیل .. آمین
======================
* جریده الإخوان المسلمین الیومیه – السنه الأولى – العدد ۱۸ – ص۱ – ۲۳ جمادى الآخره ۱۳۶۵ هـ / ۲۴ مایو ۱۹۴۶ م .
(۱) البیتان لسیدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه .
(۲) الأبیات لأبى حامد الغزالى .