شیخ القرضاوی: الدوله الإسلامیه دوله مدنیه ۱۰۰%
شیخ القرضاوی: الدوله الإسلامیه دوله مدنیه ۱۰۰%
أکد العلامه الدکتور یوسف القرضاوی أن الدوله الإسلامیه، دوله مدنیه مائه فى المائه ولکن تتمیَّز بأن مرجعیتها للشریعه الإسلامیه، رافضا اعتبار التصویت بـ"نعم" فی التعدیلات الدستوریه انتصارا للدین، مؤکدا أنه أمر اجتهادی، من شأنه أن یختلف فیه الناسُ بناءً على المصلحه التى یرونها لمصر، لافتا إلى أن المهم هو أن یحترمَ الناسُ النتیجه التى حصلت بالأکثریه.
وقال رئیس الاتحاد العالمی لعلماء المسلمین فی حواره مع جریده «المصری الیوم» الإثنین ۴ إبریل إن غیاب دور الأزهر بمنهجه الوسطی هو الذى أتاح للتیار السلفی المتشدد أن یقوى ویتسع ویؤثر فی جمهور من الناس، مبدیا تعجبه من أن أکثر السلفیین، کانوا فى موقف المعارض للثوره باعتبارها دعوه لمناوئه السلطه، ومخالفه الشرعیه، ومعصیه ولی الأمر، وهى دعوه إلى الفتنه، ونشر الفوضى، ثم یلصقون أنفسهم الآن بالثوره، ویقدِّمون أنفسهم للشعب کأنّهم أبطال الثوره، والذابُّون عنها.
وإلى نص الحوار:
■هناک حاله استقطاب على خلفیه الدین فى مصر حالیا، وبدت جلیه فى الاستفتاء على التعدیلات الدستوریه، حیث صوّر البعضُ أن فریق (نعم) انتصار للدین فى مقابل فریق آخر علمانىّ مُلحد کان ضدّ الدین.. کیف ترى ذلک الطرح؟
– لا شک أن الدین هو سر الوجود، وجوهر الحیاه، وفطره الله التى فطر الناس علیها، وأن مصر بلد مؤمن، وشعبها شعب متدین منذ القدم، بدأت تدینها فى عهد الفراعنه، وبدوافع دینیه بنت الأهرامات، وابتکرت التحنیط، وعندما تبنت الدیانه المسیحیه دافعت عنها وقدمت لها شهداءها، وعندما احتضنت الإسلام دافعت عنه ضد الصلیبیین والتتار، وغدت قلعته الثقافیه فى العالم بأزهرها العتید.
ولکن هذا شیء، ومحاوله استنطاق الأحداث بغیر ما تنطق به شىء آخر وهو غیر مقبول، والإسلام دین یقوم على الصدق والواقع، ولا یقبل التزییف والتحریف.
وما جرى فى الاستفتاء على التعدیلات الدستوریه، التی تحمّس لها المجلس الأعلى للقوات المسلحه، وعرضها على الشعب لیبدی رأیه فیها، مستعجلا تسلیم السلطه للشعب أو للمدنیین فى أقرب مده ممکنه، وقد قدر الشعب هذه الرغبه الطیبه والنیه الصالحه من الجیش؛ فاستجاب له وقال: (نعم) بهذه الأکثریه الکبیره، فاعتبر هذا التصویت وفاء للجیش وتقدیرا له.
وقد قال لى بعض الأخوه: إن فضیله الأخ الداعیه المجاهد عالم الإسکندریه المعروف الشیخ أحمد المحلاوى یشدِّد فى وجوب القول بـ(نعم) فى الانتخابات على تعدیل الدستور، ویرى أن القول بـ(نعم) فرض دینىّ، مَنْ لم یقـُل به عصى الله.
فقلت لهم: أنا أحترم الشیخَ المحلاوی، وأؤید القولَ بـ(نعم) فى الاستفتاء، ولکنْ بناءً على المصلحه التى أراها لمصر، فهو أمر اجتهادی، من شأنه أن یختلف فیه الناسُ.
■وهل ترى (محمد البرادعى)، و(عمرو موسى)، والداعیه (عمرو خالد) وأمثالهم علمانیین ملحدین؟
– لا یستطیع أحد أن یُقیمَ الدلیلَ على ذلک، والأصل فى الإسلام حسنُ الظن بالناس، ولا یجوز اتهامُ الناسِ بغیر دلیل.
المهم أن یحترمَ الناسُ النتیجه التى حصلت بالأکثریه، وأن یخدمَها الجمیعُ، حتى الذین صوَّتوا بـ(لا)، وأنا مِنَ الذین أیدوا القول بـ(نعم)، وأراها بدیهیه عندی، ولکن أشهد أن لو قالتْ الأغلبیهُ: (لا). لسلَّمْتُ لهم، وهذه هی حقیقه الدیمقراطیه.
المواطنه بمدینه الرسول
■دوله الرسول -صلى الله علیه وسلم- کانت مدنیّه تعْترف بحق الذمّیین وتمنحهم حق المواطنه.. فما رأیک فى الحدیث الذى یردِّده البعضُ فى التیارات الإسلامیه من دفعهم الجزیه وممارسه التمییز ضدهم کأقلیه؟
– لا یعرف الإسلامُ (الدولهَ الدینیه) بالمفهوم الغربىّ، أىْ الدوله (الکهنوتیه)، أو (الثیوقراطیه)، التى تعتمد على (الحق الإلهى)، وتقوم على مناکب رجال الدین، الذین یتمیزون عن سائر الجماهیر بأنّ ما حلُّوه فى الأرض هو محلول فى السماء، وما عقدوه فى الأرض هو معقود فى السماء.
إن الحاکم أو الأمیرَ أو الخلیفه فى الإسلام وکیلٌ عن الأمّه، أو أجیر عندها، ولیس مسلطا على رقابها، کما أثِر عن أبى بکر- رضى الله عنه – أنه قال فى أول خطبه له بعد تولیه الخلافه: أیها الناس، إنى ولیت علیکم ولست بخیرکم، فإن رأیتمونى على حق فأعینونى، وإن رأیتمونى على باطل فسدِّدونى، أطیعونى ما أطعتُ الله فیکم، فإنْ عصیتُ فلا طاعه لى علیکم.
وکما قال بعضُهم لعمرَ رضى الله عنه: اتقِ اللهَ یا بنَ الخطاب فأنکر بعضُ أصحابه، وقال: کیف تقول ذلک لأمیر المؤمنین؟ فقال عمر: دعْه یقلْها، لا خیرَ فیکم إن لم تقولوها، ولا خیر فینا إن لم نسمعها!
ودخل أبومسلم الخولانى الفقیه التابعى الکبیر على معاویه- رضى الله عنه- فى خلافته وقال: السلام علیک أیها الأجیر. فقال جلساؤه: بل قل: السلام علیک أیها الأمیر. قال: بل السلام علیک أیها الأجیر. وکرروا کلامهم، وکرر کلامه، فقال معاویه: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما یقول.
وأخذ أبو العلاء هذا المعنى فضمنه شعرَه حین قال:
مُـلَّ الـمـقامُ، فـکمْ أعـاشِرُ أمّــهً أمـرتْ بغـیرِ صلاحها أمراؤُهـا!
ظلموا الرعیهَ واستباحوا کیدَها وعـدَوْا مصالحها وهم أجراؤها!
وقد أعطى الرسول الکریم فى دولته التى أقامها فى المدینه (حق المواطنه)، وما یستلزمه من حقوق أخرى من دفاع عن النفس والحُرُمات، وما یوجبه من أعباء وواجبات، کالدفاع عن الأمَّه وأرضها وسیادتها وحرماتها، وما تقتضیه من دفاع ضد الأعداء.. إلخ.
وقد أجمع الفقهاء على أن أهل الذمه من (أهل دار الإسلام)، ومعنى أنهم(أهل الدار): أى مواطنون، وکلمه (الذمّه) معناها: العهد والضمان، فلهم (عهد الله ورسوله والمسلمین وضمانهم)، ولکن إذا کانت هذه الکلمه تؤذى إخواننا، فلا مانع من حذفها، فلیس هناک دلیل من کتاب ولا سنه یُلزمُنا بها.
أمّا دفع الجزیه، فهو غایه للقتال، ولیس علَّه له، کما قال العلماء فى تفسیر آیه الجزیه، فالجزیه ضریبه فى مقابل فریضه الجهاد التى یبذلها المسلمُ من دمه دفاعًا عن وطنه، فإذا طلب غیرُ المسلم أنْ یشارکَ فى الدفاع عن وطنه مع المسلم- کما هو الواقع الیوم- کفاه ذلک عن دفع الجزیه.
ولما طلب بنو تغلب- وهم من نصارى العرب- من سیدنا عمر أن یدفعوا له مالَ الجزیه باسم الزکاه، ولو کان أکبر من مقدار الزکاه التى یدفعها المسلم؛ لأنهم قوم عرب یأنفون من قبول کلمه (جزیه)، وقد تردد عمر فى أول الأمر ثم قبل ذلک قائلا: رضوا (المعنى)، وأبَوْا (الاسم)!.
■کیف تُقیّم نمو التیّار السلفىّ وحضوره فى الشارع المصرى؟ وکیف ترى دعوته ودخوله السیاسه؟
– غیاب دور الأزهر بمنهجه الوسطى هو الذى أتاح للتیار السلفى المتشدد أن یقوى ویتسع ویؤثر فى جمهور من الناس، الذین یتأثرون بالفکر الحرفىّ الذى لا یحتاج إلى تأمّل عمیق، ولذا سمَّیتُ هؤلاء بـ(الظاهریه الجُدُد)، فلهم من الظاهریه: اتجاههم فى رفض (تعلیل النص) و(رفض القیاس) و(أخذ النصوص على ظواهرها دون النظر فى مقاصدها)، وإن لم یکن لهم علم الظاهریه الذى یتمثل فى موسوعیّه ابن حزم، وغزاره معرفته بالأحادیث، وأقوال السلف، وتاریخ الملل والنحل.
وقد رأیتُ التیار السلفی فى الجبهه المضاده لتیار شباب ثوره ۲۵ ینایر، فقد رأوا هؤلاء الشباب منحرفین عن الکتاب والسنه، وخارجین على ولىّ الأمر الشرعى، الذى أمر الله بطاعته {وأولى الأمر منکم}، حتى قالوا: إن الشیخ محمد حسان کان فى فتره من الفترات مؤیدا لهؤلاء الشباب، ثم انسحب وغیَّر موقفه!
والغریب أنهم الآن یلصقون أنفسهم بالثوره، ویقدِّمون أنفسهم للشعب کأنّهم أبطال الثوره، والذابُّون عنها!.
فلابد من تمحیص هذه الأمور بالوقائع والأدله، حتى یُعرف من کان مع الثوره ومن کان ضدها، ومن کان من المذبذبین بین ذلک لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
على أنى لا أرى بحال أن یُحرم مصریٌ من ممارسه حقّه فى العمل السیاسىّ، على أن یُعرفَ موقفه، ولا یُترک لیقفز ویأخذَ دورًا غیرَ دوره، ویدَّعى دعوى لیس من أهلها، أمَّا (العزل السیاسى) الذى عرفتْهُ ثوره ۲۳ یولیو، ومارسته فى حق بعض الناس، فأرى أنه حق لا یسقط بحال، أما الذى یُسقط الشخص فهو المجتمع المصرى، والجمهور المصرى.
منهج الوسطیه
■بعض السلفیین ینتقدونک ویعتبرونک من المفرّطین، وأنک متساهل دائما فى أحکام الدین على غیر طریقه السلفیین، فما تقییمک لهذا القول؟
– لقد تبنَّیتُ من قدیم ما عُرف باسم (منهج الوسطیه)، وهو منهج له أُسسه وأهدافه، ومعالمه وضوابطه، وهو یمثِّل (المنهج الوسط للأمه الوسط)، وهو منهج قرآنى نبوى یقوم على التیسیر والتبشیر لا التعسیر والتنفیر، التیسیر فى الفتوى والتبشیر فى الدعوه، فإذا کان بعض الناس یعتمد (الأحوط)، فمنهجى یعتمد (الأیسر)، مستدلاًّ بأن رسول الله، صلى الله علیه وسلم، ما خُیِّر بین أمرین إلا اختار أیسرهما ما لم یکن إثما.
فهو وسط بین الغلو والتقصیر، أو بین الإفراط والتفریط، أو بین الطغیان فى المیزان والإخسار فى المیزان، کما قال تعالى: {ألّا تَطْغَوْا فى المِیزَان* وَأَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِیزَانَ} [الرحمن:۸،۹].
یقوم هذا المنهج على التوازن والتکامل بین نور العقل الإنسانى، ونور الوحى الربانى، أو کما قیل: بین صحیح المنقول، وصریح المعقول، أو بین الکتاب والمیزان، وأن الحق لا یناقض الحق، بالقراءه فى کتاب الله المنظور (الکون)، أو کتابه المسطور (الوحى أو القرآن).
وهو منهج یقوم على ثبات الأهداف، وتغیُّر الوسائل، وعلى الاستفاده من کلِّ قدیم صالح، والترحیب بکلِّ جدید نافع، وعلى استلهام الماضى، ومعایشه الحاضر، واستشراف المستقبل. وعلى المزج بین الرُّوح والمادَّه، والموازنه بین العقل والقلب، وبین حظوظ النفس وحقوق الرب، وبین الدنیا والآخره.
هذا هو منهجى: التکامل والموازنه، فلا غروَ أن یختلف معى بعض الذین لا یحسنون فَهم منهجى بشموله وإیجابیته ووسطیته، ولا غرو أن یحسبنى المتشددون والمتنطعون من المفرِّطین والمتساهلین.. والحقُّ أنهم هم من المتنطعین، ومن الغلاه، روى ابن مسعود، عن النبى صلى الله علیه وسلم أنه قال: «هلک المتنطِّعون» قالها ثلاثا. والمتنطِّعون: المتشدِّدون المغالون المتعمِّقون فى أمر الدین.
وروى ابن عباس، عنه صلى الله علیه وسلم قال: «إیاکم والغلو فى الدین، فإنما هلک مَن کان قبلکم بالغلو فى الدین».
ولذا تبنَّیتُ التیسیرَ الذى أوْصانا به الرسولُ الکریمُ، فقال: «یسِّروا ولا تُعسروا وبشِّروا ولا تنفِّروا»، وقال الإمامُ سفیان الثورى: «إنما الفقهُ الرخصهُ من ثقه، أمّا التشدید فیحسنُه کلُ أحد».
ولقد اعترض بعضهم قدیما على کتابى (الحلال والحرام فى الإسلام) وقالوا: الأولى أن نسمِّیه کتاب (الحلال والحلال فى الإسلام) لقله ما ذکر من المحرَّمات فیه .. وهذا لیس ذنبى، لأن شریعه الإسلام هى التى ضیقت دائره المحرمات، وجعلت الأصل فى الأشیاء الإباحه، فکلُّ شىء مباح إلا ما حُرِّم بنصٍّ.
وقد قلت لهم مازحا: ألِّفوا کتابا وسمُّوه (الحرام والحرام فى الإسلام)؛ لأنهم یتوسعون فى التحریم.
وقد جاء فى حدیث أبى الدرداء: «ما أحلَّ الله فى کتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سکت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافیته، فإن الله لم یکن لینسى شیئا، ثم تلا: {وَمَا کَانَ رَبُّکَ نَسِیًّا}» [مریم:۶۴].
ومن المعروف لدى الراصدین لمسار الفکر الإسلامى فى السنین الأخیره، أنه قد تأثر کثیرون بمنهجى الوسطى فى داخل المملکه العربیه السعودیه وخارجها.
مدنیه الإسلام
■تحدثت أصوات کثیره فى مصر عن مخاوف من نشوء دوله دینیه على غرار النموذج الإیرانى فى مصر.. ما هو تقییمک لهذه المخاوف وکیف تراها؟
– بیَّنا أن الإسلام لم یعرف فى قرونه الأولى- وهى خیر القرون- وفى أیام ازدهار حضارته: نموذج الدوله الدینیه التى عرفتها المسیحیه، إنما عرف (الدوله الإسلامیه)، وفرق کبیر بین الدوله الدینیه والدوله الإسلامیه، کما بیَّنتها من قدیم فى کتبى، (دوله مدنیه ۱۰۰%) مائه فى المائه، ولکن تتمیَّز بأن (مرجعیتها الشریعه الإسلامیه)، ومن الضرورى أن نفهم هذه الشریعه فى ضوء اجتهاد فقهى صحیح، یجمع بین نصوص الشرع الجزئیه ومقاصده الکلیه.
ولا یجوز أن یؤخذ کلُّ ما خطَّه القدماء من أقوال واجتهادات جزئیه کانت صالحه لزمانهم ومکانهم وبیئتهم، فنعتبرها صالحه بالضروره لزماننا وبیئتنا. فقد أثبت علماؤنا: أن الفتوى تتغیَّر بتغیُّر الزمان والمکان والحال والعرف.
وکان من مواد المجله (مجله الأحکام) التى قدمت بها لأحکامها (الماده: ۳۹) وهى تقول (لا ینکر تغیُّر الإحکام بتغیُّر الزمان).
على أن لا مبرر لهذه المخاوف فى بلادنا (أهل السنه)، لأن الدوله الدینیه عندنا غیر موجوده- أىْ فى فقهنا- فلیس عندنا فکره الإمام المعصوم، ولا المهدى الغائب المنتظر، والذى تُعتبر المراجع الدینیه نوابًا عنه، وهم یدعون الله بأن یفرج عنه، أو یعجِّل فرجه. ومن هنا ظهرت عندهم نظریه (ولایه الفقیه)، ولیس عندنا مثل هذه النظریه.
■یرى البعض أن هناک ثوره مضاده فى مصر، وتلعب فیها بعض التیارات الإسلامیه المتشدده دور رأس الحربه.. فما رأیک؟
– أما أن هناک ثوره مضاده فى مصر.. فهذا أمر طبیعى، ولسنا من السذاجه بحیث نصدِّق أن الذین قاوموا هذه الثوره التاریخیه، وحاربوها بکلِّ وسیله، حتى بالقتل واستباحه الدماء، أن هذه القوى تسلم بسهوله لهذه الثوره، التى نصرها الله وفتح لها فتحا مبینا، وهداها صراطا مستقیما، ونصرها نصرا عزیزا، ونحن نقرأ قول الله تعالى: {وَکَذَلِکَ جَعَلْنَا لِکُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَیَاطِینَ الإِنسِ وَالْجِنِّ یُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام:۱۱۲]، {وَکَذَلِکَ جَعَلْنَا لِکُلِّ نَبِیٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِینَ وَکَفَى بِرَبِّکَ هَادِیًا وَنَصِیرًا} [الفرقان:۳۱]، ولکن ربما أتوقف فى اعتبار أن التیارات الإسلامیه المتشدده وحدها هى رأس الحربه، بل هناک قوى شتى ستعمل ضد هذه الثوره، ولابد من التیقظ لهم، والحذر منهم دون حیف علیهم.
■جماعه الإخوان المسلمین تحالفت فى الاستفتاء على التعدیلات الدستوریه مع السلفیین رغم العداوه التاریخیه، ما تعلیقک؟
– لا أعلم أن جماعه الإخوان المسلمین تحالفوا مع السلفیین على الوقوف معا للتصویت بـ(نعم) على التعدیلات الدستوریه، رغم الخلاف المعروف بینهما، إنما وقع اتفاق فى المواقف بغیر تحالف.
وأنا من الذین دعوا للقول بـ(نعم)، ورأیته القول المطلوب والمنطقى فى هذه الظروف، ولکن لا أضخِّمه إلى الحدِّ الذى تضخِّمه بعض الفئات، ولو قالت الأغلبیه: (لا). لوجب أن ینزل الجمیع علیها، کما سبق أن قلت.
■فضیلتک مع أصوات کثیره فى العالم الإسلامى تمثلون تیارا وسطیا تعامل مع مشکلات الحیاه.. فکیف ترى العلمانیه کحل وطریق للدوله؟
– أرى أن منهج الوسطیه هو المنهج الذى یعبّر بحقٍّ عن الإسلام المتوازن، الذى یمثل (الصراط المستقیم) فلا یمیل یمینا ولا شمالا، کما تمیل مفاهیمُ الناسِ وفلسفاتُ البشرِ، فهذا مادىٌّ یغفل الروحانیه، وآخر روحانى یغفل الماده، وهذا فرْدىّ لا یهتم بالمجتمع وحقوقه، وآخر جماعى لا یعنى بالفرد وفطرته ودوافعه، وثالث ینظر إلى السماء ولا یفکر فى الأرض، أو العکس، إلى آخر هذه المتقابلات.
ولکن المنهج الإسلامى الصحیح یراعى هذه المتقابلات، ویوازن بین الثنائیات، ویعطى کلاً منها حقه دون أن یطغیها أو یخسر منها.
إن الإسلام دین واقعى، وهو یعترف بأن فى الحیاه مشکلات کثیره، نفسیه، واجتماعیه، واقتصادیه، وسیاسیه، وأخلاقیه، ولکنه یوقن أن لکل مشکله حلاً، ولکل داء دواء، وهو یصف هذا الحل أو هذا الدواء بمنهج متوازن، بعیدا عن الغلو وعن التسیب.
أما العلمانیه فلا تصلح حلًّا ولا طریقا لدوله معاصره فى بلد مسلم، إن العلمانیه کانت حلًّا لمشکله فى أوروبا، حیث کانت الکنیسه الغربیه التى تمثل الدین فى ذلک الوقت کانت تمثل الملوک ضد الشعب، والإقطاع ضد الفلاحین، والجمود ضد التحرر، والخرافه ضد العلم، فکره الناس الدین ورجاله وکنیسته، وفصلوه عن الدوله وعن الحیاه، وقد وجدوا فى نصوص دینهم نفسه ما یشجعهم على هذا المنهج، حیث قال المسیح: «دع ما لقیصر لقیصر، وما لله لله»!!.
کما وجدوا فى صلب الفلسفه الغربیه ذاتها- کما فى فلسفه أرسطو أکبر وأشهر فیلسوف غربى- «أن الله لا یدبر أىَّ شأن فى هذا الکون، بل لا یعلم شیئا عما یجرى فیه».
وکما قال مؤرخ الحضاره والفلسفه «ول دیورانت» فى کتابه «مباهج الفلسفه»، معلقا على الألوهیه عند أرسطو: «یا لإله أرسطو من إله مسکین، إنه کملک الإنجلیز یملک ولا یحکم».
أما إله المسلمین فهو یعلم کل شىء، ویملک کل شىء، ویدبر کل أمر، «وأما قیصر وما لقیصر فهو کله لله الواحد القهار».
إن حل مشکلات الحیاه لیس فى تبنى العلمانیه، بل فى تبنى (العلمیه)، والعلمیه هى منهج وروح واتجاه، هى فلسفه وتطبیق، وهى من ثمرات المنهج الإسلامى، وهو الذى یثمر التکنولوجیا، وحسن الإداره، وقوه التنظیم.
لا للتهویل
■الشیخ محمد حسین یعقوب وصف الاستفتاء بأنه غزوه الصنادیق، وأن الناس انتصرت للدین، رغم أن التعدیلات عباره عن مبادئ عامه، ولم تتدخل فى موضوعات تتعلق بهویه الدوله المصریه أو الدین.. فما تعلیقکم؟
– الحقیقه أن التعدیلات التى عرضت على الشعب المصرى لیستفتی علیها لیست ذات طابع دینی، بل هى ذات طابع وطنى، ویتعلق معظمها بشروط اختیار الرئیس، وکم مدته، وعدد مرات انتخابه، واختصاصاته، ونحو ذلک.
وأنا لست من هواه تهویل الأمور، أو تهوینها، ولذا لم یعجبنى وصف (غزوه الصنادیق)، وکأننا انتصرنا فى معرکه (حطین). الذى أعجبنى فى موقف الشعب المصرى هو أخذه الأمر بجد، وإقباله على الصنادیق بکثافه، وتحمله طول الطوابیر حتى أدى واجبه.
والعجیب أن أکثر السلفیین، کانوا فى موقف المعارض للثوره باعتبارها دعوه لمناوئه السلطه، ومخالفه الشرعیه، ومعصیه ولى الأمر، وهى دعوه إلى الفتنه، ونشر الفوضى، فالواجب على الشعب هو الطاعه المطلقه لولى الأمر!! ثم غیروا موقفهم حین انتصرت الثوره!!.
■لم یتضح فى مصر شکل الدوله التى یرغبها الشعب.. فهل ترى-مثل آخرین- أن النموذج الترکى قد یکون الأمثل للحاله المصریه فى ظل التنوع سواء فى الدین أو فى الأفکار؟
– الدوله التى یریدها الشعب المصرى بعد الثوره دوله مدنیه دیمقراطیه تعددیه تحترم الأدیان السماویه وتعتز بالإسلام، وتعتبره دین الدوله، وتجعله مصدر التشریع والتوجیه، ولا تجمُد فى فقهه وتفسیره، على ما قاله علماء الأزمنه الماضیه، ولا تنفتح فى تفسیره انفتاحا یخرجه عن الضوابط الشرعیه، والقواعد المرعیّه، وتستفید من کل التجارب الإسلامیه المعاصره، ومنها التجربه الترکیه الموفـّقه فى سیاستها إلى حد کبیر، وإن کان لدى التجربه الترکیه من العوائق ما لیس لدینا، فقد قاوم «أتاتورک» الإسلام وشریعته وثقافته مقاومه ضاریه، وصنع عوائق ضد عوده الإسلام وثقافته ودستوره، وجعل الجیش حامیا للعلمانیه، ولم یکتفِ بالعلمانیه التى تقف من الدین موقفا محایدا، کمعظم العلمانیات اللیبرالیه، التى لا تؤید الدین ولا تعادیه، بل وقف أتاتورک موقفا معارضا ومعادیا للدین، لهذا احتاج حزب العداله والتنمیه إلى جهد جاهد للقیام بإصلاحاته، والوصول بالتدرج الحکیم إلى تحقیق الکثیر من أهدافه. المصدر : موقع القرضاوی