الأسس المعرفیه للنظم السیاسیه الإسلامیه
الأسس
المعرفیه للنظم السیاسیه الإسلامیه
بقلم
– نصر محمد عارف
Image
على
مدى قرنین من الزمان، وتحت تأثیر صدمه حضاریه مزلزله، انشغل العقل المسلم بمحاولات
تقدیم إجابات إسلامیه عن أسئله وإشکالیات لم تکن فی یوم من الأیام نابعه من
تفاعلات الإنسان والزمان والمکان فی حوض الحضاره الإسلامیه.
فمطالعه
ثمار النهضه الأوروبیه وهی فی طور الإقلاع المنطلق صوب العالمیه بکل أبعادها
ومستویاتها، یطبع فی عقل ذلک المراقب المتطلع وفی نفسه شعورًا راسخًا بأن الأمم
إذا أرادت النهوض والتقدم لا بد أن تمتلک هذه الثمار وتستخدمها، خصوصا إذا کان ذلک
المراقب یطالع تلک النهضه أو یتطلع إلیها من موقع أدنى قادته إلیه حضارته عبر
مراحل تدهورها التی أوصلته أو أوصلها هو إلى درجات دنیا فی التخلف والضعف والفقر
وعدم القدره على امتلاک أسباب إداره الحیاه أو تسییر المجتمعات، بل عدم إمکانیه
إیجاد وسائل تحقق الأهداف أو توفیر أدوات کافیه لتحقیق الحاجات الإسلامیه للإنسان.
والحال
هکذا، فقد کان من الطبیعی أن تتفرق السبل بالعقل المسلم، وأن یضرب فی تیه المعرفه
عقودا بل قرونا؛ ذلک لأنه واجه تحدیات واقعیه قاهره فی تأثیرها، ضاغطه فی تعددها
وتشعبها، وفی نفس الوقت کان یقترب من حد الکفاف بل الفاقه فی مکناته المعرفیه أو
العلمیه، حیث انقطع لزمن طویل عن مصادر الإمداد الفکری والتجدد الحضاری التی تمیزت
بها حضاره الإسلام عبر قرون ازدهارها.
وهنا
جاء الفکر الإسلامی الحدیث والمعاصر -منذ المواجهه الأخیره مع الغرب التی بدأت
بالحمله الفرنسیه- فکرا انفعالیًّا ولیس منفعلا، مفعولا به وفیه ولیس فاعلا، تحدده
وتشکل خریطته ردود الأفعال ولیس المبادرات الذاتیه، بحیث یمکن القول إجمالا إنه
کان فکر “الردود” على أطروحات “الآخر” الفکریه أو العقائدیه،
أو السیاسیه، حیث کانت معظم -إن لم یکن کل- الأطروحات الکبرى تأتی فی صوره رد فعل،
أو محاوله للدفاع أو لدحض هجوم من هذا الفصیل أو ذاک أو من هذا الباحث أو ذاک.
وعلیه
یمکن القول: إن الفکر الإسلامی الحدیث والمعاصر انطبع جمیعه بمنهجیه علم الکلام
التاریخیه أی کان فکرًا منافحًا عن العقیده مدافعا عنها، ولیس تفکیرا هادئا منطلقا
من ذاته، محددا بأسئلته هو، ساعیا لتحقیق أهدافه الخاصه به.
وفی
ظل هذه الوضعیه المتوتره القلقه تحددت الأسس المعرفیه للفکر الإسلامی الحدیث فیما
یتعلق بالسیاسه، بل بکل العلوم المتعلقه بتنظیم المجتمع وترتیب شئونه العامه
وإدارته، وعلى هذه الأسس سارت الکتابات التالیه حتى ظهرت لدینا علوم اجتماعیه
تنتسب إلى الإسلام وتدعی أنها تؤسلم المعرفه، وإن کانت فی حقیقتها لا تعدو أن تکون
تأملات مأزوم یستعجل الخلاص من وضعیه التخلف والضعف التی یتردى فیها من درک إلى ما
هو دونه.
هذه
الدراسه تؤکد منذ البدایه أنها ستخرج عن هذه الأرضیه المعرفیه بل ستفارقها مفارقه
تامه لتنظر إلیها من خارجها زمانًا ومکانًا، بحیث یکون هدف هذه الدراسه المتواضعه
التی بین أیدینا هو محاوله تقدیم أسس عامه نظریه على المستوى المعرفی المجرد
لملامح النظم السیاسیه التی یمکن أن تنطلق من قاعده معرفیه إسلامیه، وفی هذا
السیاق سوف نضع مقدمتین أساسیتین أو إن شئت فقل فرضیتین کبیرتین هما:
۱-
أن معظم -إن لم یکن کل- الکتابات الحدیثه فی النظام السیاسی الإسلامی أو فی الفکر
السیاسی الإسلامی أو أی من قضایاه الفرعیه قد استبطنت النموذج المعرفی الغربی فی
علم السیاسه وفی التفکیر السیاسی بصفه عامه، وحاولت أن تنسج على منواله أو أن تملأ
الوعاء الغربی بمحتوى إسلامی، فقد کانت فی معظمها -إن لم یکن جمیعها- غربیه المنهج
والنموذج المعرفی، بل غربیه المفهوم والمنطلق والغایه، ولم یکن لها نصیب من
الإسلام إلا التفاصیل والجزئیات والمعلومات. فقد کانت فکرًا إسلامیًّا مقولبًا فی
أوعیه وأطر ومحددات غربیه، لذلک جاءت مشوهه البنیه، متناقضه المحتوى غیر قادره على
الإقناع أو التأثیر ومن ثم ظلت صوتًا صادحًا خارج السرب غیر قادر على التجذر أو
الحلول محل النموذج السائد.
۲-
إنه لا یمکن الادعاء أن هناک نظاما سیاسیا إسلامیا واحدا محدد المعالم والخصائص
والمکونات، بل على الأرجح هناک منظومه معرفیه إسلامیه تعالج الشأن السیاسی وتحدد
له الأسس والمنطلقات والمقومات والمقاصد، وعن هذه المنظومه ومنها تنبثق نظم سیاسیه
عدیده مختلفه المکونات والأشکال والوسائل والصیغ، ولکنها جمیعها یمکن إرجاعها إلى
هذه المنظومه المعرفیه الإسلامیه، أی أن هناک نظمًا سیاسیه إسلامیه ولیس نظامًا
سیاسیًّا إسلامیًّا واحدًا.
وانطلاقًا
من هاتین الفرضیتین، سوف نحاول مقاربه هذا الموضوع من خلال معالجه القضایا الست
التالیه:
۱.منهجیه
تناول النظام السیاسی الإسلامی فی الأدبیات المعاصره.
۲.
الإشکالیات المتعلقه بمصادر البحث فی النظام السیاسی الإسلامی.
۳.
موقع النموذج الإسلامی للحکم من نظم الخطاب القرآنی.
۴.
فی النموذج الإسلامی للحکم: مرکزیه دور المجتمع وهامشیه دور الدوله.
۵.
منهجیه تجرید نماذج الحکم التاریخیه.
۶.المشترک
الإنسانی وحدود التعاطی مع الخبرات المعاصره.
أولا:
منهجیه تناول النظام السیاسی الإسلامی فی الأدبیات المعاصره
إن
من یطالع بعین الناقد البصیر مجمل الکتابات المعاصره حول موضوع النظام السیاسی
الإسلامی أو أحد جوانبه یجد أنها لا تخرج فی عمومها عن اتجاهات ثلاثه من حیث
النموذج المعرفی الذی تنطلق منه وما یشتمل علیه من مسلمات، ومنطلقات، وغایات،
ومنهجیه تربط بینها، بغیه الوصول إلى الصوره المثلى للنظام السیاسی، هذه الاتجاهات
یمکن إیجازها فی التالی:
۱-
اجترار الأشکال التاریخیه للحکم ومحاوله فرضها على الواقع المعاصر.
وهذا
الاتجاه یقوم فی جوهره على فرضیه مؤداها أن الزمن عنصر محاید لا دور له ولا تأثیر،
وأن التاریخ قطعه واحده ثابته المعالم والخصائص والمحددات وأن ما کان یصلح منذ
أکثر من عشره قرون لم یزل صالحًا الیوم، وأن الإنسان کائن بیولوجی فحسب لیس
لمتغیرات الزمن والواقع والثقافه فیه تأثیر یذکر. وتأسیسًا على ذلک یرى هذا
الاتجاه أن النظام الإسلامی للحکم هو عباره عن وصفه جاهزه سابقه الإعداد تم وضعها
فی بدایات ظهور هذا الدین وتکوین جماعته السیاسیه الأولى وما على اللاحقین إلا
فهمها الفهم الجید وإعاده استنزالها فی واقعهم بغض النظر عن طبیعه هذا الواقع
وتعقیداته وبغض النظر عما طرأ على الإنسان فی هذا الواقع من تحولات سواء إیجابیه
أو سلبیه.
ولذلک
نجد أن تناولات هذا الاتجاه للنظام السیاسی فی الإسلام لا تخرج عن تردید وإعاده
اجترار مکونات النظم السیاسیه التاریخیه التی ظهرت فی حوض الحضاره الإسلامیه على
أنها نظام سیاسی واحد هو النظام الإسلامی، ابتداء من الحدیث عن الخلافه بمعناها
التاریخی الجامع لشتات الأمه وخصائص وشروط هذا الخلیفه الفرد الذی توضع فی یدیه
مقدرات المسلمین، ثم الحدیث عن البیعه الخاصه والعامه، وأهل الحل والعقد، ووزارتی
التفویض والتنفیذ… إلخ، وبقیه الأشکال التنظیمه التی أبدعها العقل المسلم عبر
تطوره التاریخی لیحقق بها أهداف وغایات النموذج الإسلامی لحکم المجتمعات وإصلاحها
وتطویرها طبقًا لظروفها وتطورها التاریخی(۱).
وإشکالیه
هذا الاتجاه الأساسیه تکمن فی أنه یخلط بین الحقیقه وتجلیاتها وأشکالها المتعدده،
فحقیقه النموذج الإسلامی للحکم کما یمکن استنباطها من القرآن والسنه لها خصائص
ومحددات وأسس وغایات معینه، وما هذه الأشکال التاریخیه إلا تجلیات لهذه الحقیقه
اتسقت مع طبیعه الزمان والمکان والإنسان، غیر أنه لا یمکن النظر إلى المظهر أو
الشکل المتجلی عن هذه الحقیقه على أنه قد استلب الحقیقه واحتکرها وقضى على طبیعتها
المطلقه وحولها إلى تکوینه نسبیه معینه یکون من السهل الحکم بنسبیتها التاریخیه،
ومن ثم عدم صلاحیتها بعد ذلک.
فما
هذه الأشکال التاریخیه للحکم إلا نتاجًا طبیعیًّا لعملیه معقده من التفاعل بین
النموذج الإسلامی لإداره شئون البشر، وبین معطیات الزمان والمکان والإنسان، أو
الواقع بکل أبعاده ومتغیراته وهذا التفاعل أنتج فی النهایه تلک الأشکال التاریخیه
التی من المؤکد أنها ستختلف إذا ما اختلف أحد أبعاد هذه المعادله أو أحد مکوناتها
أو معظمها کما هو الحال فی واقعنا المعاصر؛ إذ لم یبق من کل المعادله سوى النموذج
النظری المجرد، أما کل ما یتعلق بالزمان والمکان والإنسان أو الواقع الاجتماعی
والاقتصادی والثقافی فقد تغیر تغیرًا جذریًّا بحیث لم یعد له مع ذلک الواقع
التاریخی نسبًا ولا صهرا.
۲-
تصمیم نظام إسلامی للحکم على شاکله أحد النظم السیاسیه الغربیه المعاصره.
وینطلق
هذا الاتجاه من قناعه سطحیه ساذجه تقوم على أن الحاجات الإنسانیه الواحده یمکن
إشباعها بطریقه واحده، فحاجه الإنسان للتنظیم والانتظام فی جماعات یمکن تحقیقها
بنفس الوسائل رغم اختلاف الثقافات والحضارات والمراحل التاریخیه.
کذلک
یتأسس هذا الاتجاه على فرضیه مؤداها أن العملیه السیاسیه والأفکار المتعلقه بها هی
واحده فی کل الثقافات والحضارات والنماذج المعرفیه ویغفل هذا الاتجاه تمامًا عن
الاختلافات الجذریه بین النماذج أو الأنساق المعرفیه، وکیف أن بعضها مثل النموذج
المعرفی الغربی یستبطن مفهوم وقیم الصراع فی مختلف علومه ومعارفه من علم الطب الذی
یقوم على ضروره التصارع مع أسباب المرض من خلال الأدویه والسموم، إلى السیاسه التی
تندرج جمیع مؤسساتها فی إطار وسائل حل الصراع بطرق سلمیه… إلخ.
أما
النموذج الإسلامی فإنه یقوم على مفهوم آخر هو مفهوم التوازن، وهذا بدوره یترک
آثاره على مختلف العلوم والمعارف ابتداء من الطب الذی یتأسس على مفهوم التوازن،
بحیث یکون المرض هو اختلال فی التوازن والعلاج یتأتى بإعاده الجسد إلى حاله
التوازن، إلى السیاسه التی تکون جمیع عملیاتها هادفه إلى تحقیق العدل الذی هو جوهر
عملیه التوازن الاجتماعی.
ولذلک،
ونتیجه لهذه السذاجه والسطحیه فی التعامل مع الظاهره السیاسیه، ونظرًا للطبیعه
البرجماتیه التی شکلت العقلیه المسلمه المعاصره، خصوصًا تلک التی تندرج فی حرکات
سیاسیه تسعى للوصول إلى السلطه وتتنافس علیها بنفس وسائل وآلیات العمل السیاسی
الأوروبی والأمریکی، فإن کتابات هذا الاتجاه جاءت فی مجموعها ساعیه إلى صب الأفکار
الإسلامیه فی قوالب وأطر غربیه، أو محاوله تفصیل الإسلام على نفس مقاسات النظام
السیاسی لإحدى الدول الغربیه، أو إعاده تصمیم النظام الإسلامی بصوره تجعله لا
یختلف عن النظام الغربی موضع التقلید إلا فی الاسم وبعض التفاصیل التی تجعله لا
یصل إلى درجه الإتقان الموجوده فی هذا النظام الغربی أو ذاک.
ولذلک
نجد أن معظم کتابات هذا الاتجاه تعالج موضوعات مثل الدستور الإسلامی، الأحزاب
السیاسیه فی الإسلام، سلطات رئیس الدوله فی الإسلام، البرلمان الإسلامی،
الانتخابات فی الإسلام… إلخ(۲).
وهذه
المقاربات تفتقد إلى مبرر وشرعیه الوجود؛ إذ لو کان الإسلام یقدم نظامًا مشابها
لأی نظام سیاسی غربی معاصر فالأجدر نقل النظام المعاصر وتنقیته مما بداخله من قیم
وأفکار وأسالیب تتناقض مع القیم الإسلامیه، ولم یکن هناک أی داع لإضاعه الجهود فی
التنظیر ومحاوله خلق الاختلافات؛ لأنه کذلک فعل المسلمون الأوائل عندما تبنوا
النظم الموجوده فی عصرهم سواء الفارسیه الساسانیه أو البیزنطیه، وعملوا بها وبنفس
لغاتها إلى ما یقارب نهایه القرن الأول الهجری.
ومن
هنا یصبح هذا الاتجاه مجرد محاوله عبثیه لا تقدم حلولا ولا تسهم فی تحقیق أی ثراء
نظری، ولذلک لا یمکن اعتبارها محاوله تأصیل نظام أو نظم سیاسیه إسلامیه تعکس جوهر
المنظومه القیمیه لنموذج الحکم الإسلامی، ولا یمکن اعتبارها کذلک محاوله تکییف
النظم الغربیه وتطویرها لتتناسب مع الواقع الإسلامی المعاصر، فهذا الاتجاه لا
ینتمی إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
۳-
التجدید الجزئی من خلال إحیاء بعض المؤسسات التاریخیه الأساسیه وإعطائها دلالات
ووظائف معاصره.
ویعد
هذا الاتجاه أقل الاتجاهات الثلاثه بروزًا وأخفتهم صوتًا وأضعفهم تأثیرا، حیث
یقتصر على مجموعه محدوده جدًّا من الأکادیمیین الذین لا تتبنى أفکارهم حرکات
سیاسیه، ولا تسوق مؤلفاتهم جماعات دینیه، ولذلک فإن تأثیرهم محدود بحدود طبقه ضیقه
من الباحثین والمثقفین، ویسعى هذا الاتجاه إلى محاوله تجدید بعض القیم والمؤسسات
التی وجدت فی التاریخ السیاسی الإسلامی من خلال إعاده تعریفها أو إعاده ملئها
بمعانٍ ودلالات تتسق مع العصر الحاضر، بحیث تکون قادره على التفاعل مع هذا العصر
وفی نفس الوقت تحقق الاتصال والتواصل مع المخزون القیمی والثقافی التراثی.
ومن
أهم القیم والمفاهیم السیاسیه التی یتم التعامل معها فی هذا الاتجاه مفهوم الأمه
ومفهوم الکیان الاجتماعی الحضاری، ومفهوم العمران، ومفهوم الاستخلاف، ومفهوم الأمر
بالمعروف والنهی عن المنکر، ومفهوم الرابطه السیاسیه، ومفهوم الشرعیه، ومفهوم
السیاسه… إلخ(۳).
کذلک
فقد تم التعامل مع بعض المؤسسات التاریخیه بنفس المنطق وبذات المنهجیه، مثل: مؤسسه
الوقف(۴)، مؤسسه الشورى(۵).
ویعتبر
هذا الاتجاه بدایه حقیقیه لتأصیل مدرسه فی علم السیاسه على أسس وقواعد إسلامیه وفی
نفس الوقت قادره على التواصل مع علم السیاسه المعاصر بنفس مفاهیمه ومناهجه وأدواته.
ثانیا: الإشکالیات المتعلقه بمصادر البحث فی
النظام السیاسی الإسلامی
على
الرغم من أن قضیه المنهج هی أساس أی نهوض علمی أو حضاری عام فإن الفکر الإسلامی
المعاصر لم یعر هذه القضیه الاهتمام الواجب، بل أحیانًا لم یعرها أی اهتمام. فعلى
سبیل المثال عندما تعامل العقل المسلم المعاصر مع تراثه الفکری لم یتعامل معه
بصوره منهجیه منظمه، بل على العکس جاء تعامله معه على درجه عالیه من العشوائیه
والانتقائیه والتقلید والجزئیه واجترار مقولات معینه دون تمحیصها أو التأکد من
مصداقیتها، کذلک سیطرت علیه السطحیه فی التحلیل، والتسرع فی التعمیم واستخلاص
النتائج، ففی دراسه استغرق إعدادها من عام ۱۹۸۶ حتى ۱۹۹۳، وتم نشرها فی عام ۱۹۹۴(۶
). خلص کاتب هذه السطور بعد أن قام بحصر التراث السیاسی الإسلامی من مصادره
المتعدده إلى مجموعه من النتائج تبین أن التألیف المعاصر فی الفکر السیاسی
الإسلامی یقوم على مجموعه من الأساطیر التی تفتقد أی أساس من المنهج أو المصداقیه
التاریخیه.
وأهم
هذه الأساطیر ما یلی:
۱-
إطلاق تعمیمات حول النظام السیاسی الإسلامی أو الفکر السیاسی الإسلامی أو التراث
السیاسی للمسلمین دون استقراء أو تأصیل یعتد به، فبعد أن قام کاتب هذه السطور بحصر
ما یزید عن ۳۵۰ مصدرًا مباشرًا فی الفکر السیاسی الإسلامی قام أیضا بتحلیل مرجعیه
المؤلفین المعاصرین، وتحدید إلى أی المصادر رجعوا وعلى أیها اعتمدوا ومن أیها
استقوا مقولاتهم وتعمیماتهم، وقد تبین أن متوسط رجوع المؤلفین المعاصرین للمصادر
التراثیه فی الفکر السیاسی الإسلامی لم یتجاوز ۶% للواحد منهم، وأنهم فی مجموعهم
لم یعودوا لأکثر من ۱۸% من مجموع المصادر التی تم حصرها وتحدید تواریخ تألیفها،
وأماکن وجودها، وهذا یبین إلى أی مدى یفتقد التألیف المعاصر فی الفکر السیاسی
الإسلامی إلى أساس منهجی.
فجمیع
من کتب فی الظاهره السیاسیه من المعاصرین ابتداء من علی عبد الرازق حتى تاریخ نشر
هذه الدراسه عام ۱۹۹۴ لم یرجعوا إلى أکثر من ۱۸% أی أنهم جهلوا ۸۲% من ذلک التراث،
وعلى الرغم من ذلک أطلقوا تعمیمات تستوعب التراث السیاسی الإسلامی وأحیانًا تنفیه،
فعلى سبیل المثال فإن الشیخ علی عبد الرازق(۷) لم یطلع إلا على کتابین اثنین أی
أقل من ۱% من هذا التراث، أما محمد سعید العشماوی ومحمد أحمد خلف الله(۸) فلم یرجع أی منهما إلى أی کتاب من کتب الفکر
السیاسی الإسلامی، وعلى الرغم من ذلک ملأوا الدنیا ضجیجًا بتعمیمات جازمه تنفی أو
تثبت القضایا الکبرى التی تتعلق بذلک التراث!.
۲-
التعامل مع التراث السیاسی الإسلامی من خلال مجموعه من الشوامخ أو الأعلام الذین
ینظر دائمًا إلیهم على أنهم کائنات خرافیه لا سابق ولا لاحق لها؛ أبدعوا أفکارهم
من خلال تأملات ذاتیه أو عبقریات فردیه ولم ینظر إلیهم على أنهم جزء من سلسله
متواصله من العلماء والمفکرین، وحلقه من حلقات علم معین أو مدرسه معینه فی ذلک
العلم. فعاده ما یتم النظر إلى الماوردی أو الغزالی أو الفارابی أو ابن سینا أو
ابن خلدون على أنهم أفراد أفذاذ ولیسوا جزءا من تقلید متواصل من التفکیر فی کیفیه
إداره المجتمعات البشریه بدأ مع بدایه تکوین الأمه الإسلامیه، واستمر حتى حل محله
تقلید آخر أو نموذج معرفی آخر.
۳-
إن ما تم اکتشافه وتحقیقه من التراث هو کل ما وجد، أو أن ما هو غیر معروف فهو غیر
موجود، فما تم تحقیقه وطباعته هو کل ما وجد بغض النظر عن جدارته أو أهمیته أو
مستواه الفکری بحیث أصبح المحققون والناشرون هم صانعی المعرفه ومحددی ماهیه التراث
السیاسی الإسلامی. فعلى سبیل المثال قد لا یکون کتاب الماوردی “الأحکام
السلطانیه” هو أهم کتبه من زاویه عالم السیاسه، بل قد یکون “تسهیل النظر
وتعجیل الظفر” هو أهمها على الإطلاق غیر أن الأول هو الأکثر ذیوعا، والثانی
لا یعرفه الکثیر من الباحثین حتى أولئک الذین تخصصوا فی الفکر السیاسی للماوردی
وأعدوا أطروحاتهم للدکتوراه حول فکره السیاسی، حیث لم یستطع أی منهم حصر کل کتب
الماوردی، وافتقد معظمهم أهم کتبه وأکثرها ثراء من الناحیه النظریه(۹).
۴-
التعامل مع الفکر السیاسی على أنه أحد أبواب علم الفقه، ومن ثم سیطره الرؤیه
الفقهیه على کل ما یتعلق بالتفکیر السیاسی، فقد اعتمد معظم الباحثین المعاصرین على
الأبواب المتصله بالفکر السیاسی فی الموسوعات الفقهیه أکثر من اعتمادهم على کتب
الفکر السیاسی، وما کانت شهره کتاب الأحکام السلطانیه للماوردی إلا لأنه یمثل
اقترابًا فقهیًّا فی التعامل مع الظاهره السیاسیه، ولعل ذلک یعود إلى أن معظم -إن
لم یکن کل- الرواد المعاصرین فی الفکر السیاسی الإسلامی جاءوا من خلفیه فقهیه أو
خلفیه قانونیه، لذلک کان من المنطقی أن تکون مرجعیتهم مرجعیه فقهیه أو قانونیه.
وقد
لا یکون ضروریًّا توضیح الفارق الضخم ما بین الفقه بمعناه الاصطلاحی وبین الفکر،
حیث إن الفقه یتعامل مع النصوص أکثر من تعامله مع الواقع على عکس الفکر الذی ینطلق
من الواقع صوب النص للبحث عن حلول لمشاکل واقعیه، کذلک فإن الفقه یسعى دائمًا
للوصول إلى أحکام وتقنینات وقواعد عامه بینما الفکر یسعى للوصول إلى حلول لمشاکل
قد تکون هذه الحلول وقتیه أو نسبیه وقد لا تمثل قاعده أو حکماً.
وأخیرا..
فإن منهجیه الفقه یغلب علیها الطابع الاستنباطی بینما منهجیه الفکر فإنها عاده ما
یغلب علیها الطابع الاستقرائی.
ومن
هنا فإن مقاربه الفکر السیاسی الإسلامی من زاویه الفقه ستؤدی لا محاله إلى تجمید
هذا الفکر، وإفقاده الحیویه اللازمه وتحویله إلى مجموعه من القواعد الکبرى، ولذلک
لم یکن غریبًا سیطره الرؤیه الدستوریه القانونیه على مجمل الکتابات التی تتعامل مع
النظام السیاسی الإسلامی عند المعاصرین.
۵-
هیمنه التجربه التاریخیه للمسلمین خصوصًا فی فترات ازدهار حضارتهم على مرجعیه
الکتاب المعاصرین فی الفکر السیاسی الإسلامی، حیث تم الاعتماد بصوره مبالغ فیها
على الأشکال التاریخیه للنظم السیاسیه الإسلامیه واعتبارها مرجعیه علیا حاکمه
ینبغی الالتزام بها وإعاده تکرارها، وإغفال غالبیه الباحثین عن الأصول والمصادر
النظریه التی تم بناء علیها صیانه تلک النظم التاریخیه، کذلک إغفال الکثیرین عن
التأثیرات الوافده من حضارات أخرى، ودورها فی صیاغه النظم السیاسیه التاریخیه فی
الحضاره الإسلامیه، وفی ظل اتخاذ التجارب التاریخیه مرجعیه للباحثین المعاصرین
سیطرت الرؤیه السلفیه الجامده على معظم الکتابات المعاصره فی النظام السیاسی
الإسلامی، وأصبح الإسلام مساویًا تمامًا لنظم المسلمین التاریخیه، وأصبحت الصیغ
التاریخیه ومؤسساتها هی المؤسسات والنظم الإسلامیه التی یجب التعامل معها کمقدس
ینبغی إعاده تفعیله، ولیس کتجربه بشریه تمت فی ظل ظروف اجتماعیه وتاریخیه معینه،
ومن المستحیل إعاده إنتاجها فی غیر سیاقها التاریخی.
وقد
یکون من الضروری التفرقه بین التعامل مع التاریخ کمرجعیه لها صفه القداسه وبین
التعامل معه کمعمل للتجربه البشریه أو کنماذج تم فیها إیجاد صیغ للتفاعل بین
النموذج الإسلامی للحکم فی صیاغاته النظریه وبین الواقع، وکان الناتج هو تلک النظم
والمؤسسات، ومن ثم فإننا إذا أردنا صیاغه نظام سیاسی معاصر ینتسب للإسلام فإنه یجب
علینا تکرار العملیه المنهجیه التی تمت من خلالها عملیه التفاعل بین النموذج
النظری وبین الواقع ولیس تکرار نتائج هذه العملیه المتمثله فی نظم ومؤسسات نشأت فی
ظروف تختلف کثیرًا عن ظروفنا المعاصره.
ثالثا:
موقع النموذج الإسلامی للحکم من نظم الخطاب القرآنی
إذا
حاولنا استقراء آیات القرآن الکریم والتأمل فی طبیعه ومنهجیه خطاب الله سبحانه
وتعالى الموجه للإنسان من خلال کتابه العظیم، سنجد أن خطاب الله سبحانه وتعالى
للإنسان على مدى آیات القرآن العظیم وسوره یمکن تصنیفه فی ثلاثه مستویات للخطاب
وذلک من حیث منهجیه الخطاب وطبیعته ودرجه تفصیله وإجماله، وهذه الخطابات الثلاثه
أو المستویات الثلاثه هی:
۱.
خطاب تفصیلی:
حیث
یکون الخطاب القرآنی تفصیلیًّا یتعامل مع کل ما یتعلق بحیاه الإنسان والمجتمع
بصوره تفصیلیه دقیقه تحدد أدق أبعاد القضیه موضع التناول تحدیدًا جزئیًّا لا یترک
من أطرافها شیئًا إلا ویتناوله تناولًا کمیًّا وکیفیًّا، وهذا المستوى من الخطاب
یتعامل مع نوعیه معینه من القضایا ذات خصائص مشترکه ومحدده تتصف بما یلی:
أـ
أنها قضایا وموضوعات لصیقه بالإنسان کإنسان أو جزء من فطرته وتکوینه، وبدونها یفقد
وجوده کمخلوق مکلف متمیز عن باقی المخلوقات، وذلک مثل قواعد وإجراءات الزواج
والنسب والأبوه والأمومه والخلافات الأسریه والطلاق والمیراث والعده وغیرها، وهذه
النوعیه من الموضوعات والقضایا تتعلق فی جوهرها بالإنسان على الرغم اختلاف العصور
والأزمنه، فالبشر منذ الأزل یفضلون أبناءهم على إخوانهم وأولادهم على بناتهم، ویحرصون
على استمرار ثرواتهم فی نسلهم… إلخ.
ب-
أنها موضوعات جزئیه تتعلق بالأفراد ولیست موضوعات اجتماعیه، فعاده ما یکون
المستفید منها أو وحده التحلیل فیها هو الفرد ولیس المجموع أو الجماعه الصغیره فکل
الموضوعات السابق الإشاره إلیها تتعلق بحقوق أفراد وواجباتهم ولا تتعداهم إلى أی
تکوین اجتماعی مهما بلغ صغره.
ج-
أنها موضوعات تتعلق بالثابت المضطرد من الأخلاق والقیم المجتمعیه التی تمثل سیاجًا
وحدودًا لبقاء المجتمع واستمراره ودوامه على صوره متوازنه مستقره، وذلک مثل قضایا
الحدود والجنایات الکبرى والقیم الأخلاقیه العامه التی وردت فی جمیع الأدیان
السماویه، وأجمعت علیها جمیع ثقافات العالم، مثل تجریم القتل أو السرقه أو الزنا
أو تأثیم الغیبه والنمیمه والفتنه وغیرها. وهذه المنظومه الأخلاقیه ثابته بثبات
وجود الإنسان على ظهر الأرض، ومن یستقرئ التاریخ البشری أو الواقع المعاصر یجد أن
هذه الموضوعات تمثل ثوابت لا یستطیع أی أحد المجادله فی الإجماع الإنسانی علیها.
۲.
خطاب مقاصدی قیمی:
وهنا
یأتی الخطاب القرآنی عامًا غیر محدد التفاصیل والجزئیات یتناول فقط الأطر الکلیه
والمقاصد العلیا والقیم العامه، ولا یتطرق إلى الوسائل أو کیفیه تطبیق وتنزیل هذه
القیم أو تحقیق هذه المقاصد والغایات. حیث عاده ما یترک ذلک للعقل الإنسانی لیجتهد
فی تحقیق هذه القیم والوصول إلى تلک الغایات والمقاصد ویأتی هذا الخطاب القرآنی
لیعالج نوعیه معینه من القضایا تتصف بالخصائص والمحددات التالیه:
أ-
أن تکون موضوعات عامه تتعلق بجماعات بشریه کبرى تتجاوز حدود الفرد أو الأسره. ومن
ثم فإن هذه الموضوعات تتشکل طبیعتها وحدودها من خلال تفاعل أعداد کبیره من الأفراد
مع بعضها البعض، ومع الواقع التاریخی زمانًا والواقع الجغرافی مکاناً. ومن هذه
الموضوعات کل ما یتعلق بتنظیم الجماعات البشریه وتسییر أمورها وترتیب أحوالها
ومعالجه مشکلاتها، ومن هنا فإن کل ما یدخل فی إطار علوم العمران البشری من علوم
السیاسه والاقتصاد والعلاقات بین الدول والاجتماع وغیره تنضوی ضمن هذه النوعیه من
الموضوعات التی عالجها القرآن الکریم بخطاب عام مقاصدی یرکز على القیم الکبرى
والمقاصد العلیا ولا یتطرق إلى التفاصیل والوسائل وکیفیه التطبیق أو أیه جزئیات
وإنما یترک ذلک لیتم تحدیده طبقًا لتحولات تلک الظواهر الکبرى موضوع الخطاب.
ب-
أن تکون موضوعات عرضه للتغیر والتحول طبقًا لتغیرات الظروف والمحددات التی تشکلها،
أی أن تکون موضوعات لیست مستقله بذاتها أو فی ذاتها، وإنما هی موضوعات تابعه
تحددها قضایا أخرى، أی أن جمله هذه الموضوعات یمکن أن یطلق علیها متغیرات تابعه
تشکلها منظومه من المتغیرات المستقله التی تتحول وتتغیر مع تغیر الزمان والمکان،
وبعباره أخرى یمکن القول إن جمله هذه الموضوعات هی عاده محصله للتفاعل بین الإنسان
والزمان والمکان، وبمقدار التغیر فی أی من أطراف هذه المعادله الثلاثیه یکون
التغیر فی هذه الموضوعات محل الخطاب، ومن هنا فإن کل ما یتعلق بالنظام السیاسی أو
النظام الاقتصادی أو العسکری أو التعامل الدولی هو محصله لمجموعه کبیره من
المتغیرات التی تدور حول الأطراف الثلاثه للمعادله السابق الإشاره إلیها، وهی
الزمان والمکان والإنسان، ومن ثم فإن هذه النظم لا یمکن أن تکون ثابته بل على
العکس هی دائمه التغیر والتحول طبقًا للظروف الاجتماعیه أو الزمنیه أو المکانیه
ولذلک جاء الخطاب القرآنی لیعالجها على المستوى المقاصدی والقیمی لا على المستوى
التفصیلی الجزئی کما کان فی الخطاب السابق.
۳.الخطاب
المنهجی:
ویأتی
هذا الخطاب عندما یکون الموضوع غیر قابل للإمساک به أو الوصول إلى حقیقته دفعه
واحده. أو عندما یکون الفارق ما بین الظاهر والحقیقه، أو ما بین الواقع ونفس الأمر
واسعًا وممتدًا ومتعدد الوجوه. حیث الواقع هو ما تدرکه العقول من خلال الحواس المجرده
ونفس الأمر هو الشیء على ما هو علیه أو هو حقیقه الشیء التی لا یستطیع الإنسان
الوصول إلیها، وإنما قد تتکشف له فیما بعد أو فی عصور تالیه(۱۰) وخیر مثال للتعبیر عن الفارق بین الواقع ونفس
الأمر مثال الماء أو القمر، حیث کان یتم إدراک القمر على أنه مصدر للضوء والجمال
ثم بعد ذلک اکتشف الإنسان أنه أحجار وصحراء، وقد یکون شیئًا آخر فی المستقبل، کذلک
الماء فقد أدرکه الإنسان على أنه مصدر للری ثم اکتشف بعد ذلک أنه عنصران من عناصر
الهواء هما الأکسجین والهیدروجین.
وفی
مثل هذه الظواهر التی تتسع المسافه ما بین واقعها ونفس أمرها أو ما بین ظاهرها
وحقیقتها یأتی الخطاب القرآنی عاده على مستوى المنهج ولیس الموضوع أو المعلومه أو
التفاصیل، ولذلک نجد أن کل الخطاب القرآنی المتعلق بالکون والطبیعه أو بالعلوم
الطبیعیه على الجمله هو خطاب منهجی یرسم للإنسان طرق الوصول إلى الحقیقه دون أن
یقدم له معلومه نهائیه ویدفعه للبحث والتأمل والتفکیر والنظر والدرس والتجریب
والاختبار دون أن یقدم له نتائج تلک العملیات المنهجیه أو ما سوف توصل إلیه.
والناظر
فی جمیع آیات القرآن المتعلقه بالکون والطبیعه یجد أن جوهرها خطاب منهجی عام یقود
العقل البشری لعملیات متواصله من البحث والتأمل والنظر ویدفعه لذلک دفعا.
ومن
هنا نجد أن هذه المستویات الثلاثه من الخطاب القرآنی تعالج ثلاثه مجموعات من
العلوم، فإذا کان الأول یعالج علوم الفقه والشریعه بمعناها الاصطلاحی المتعلق
بتنظیم علاقه الإنسان بربه ثم بتنظیم شئون الأسره والفرد من الناحیه الفقهیه،
وتنظیم الحدود العامه للمجتمع من الناحیه القانونیه خصوصًا ما یتعلق بالحدود
والتعزیر والجنایات والقواعد العامه للسلوک، فإن الخطاب الثانی أی الخطاب المقاصدی
فإنه یعالج کل ما یتعلق بالنظم المجتمعیه سواء کانت سیاسیه أو اقتصادیه أو اجتماعیه
دولیه، بعباره أخرى فإن هذا الخطاب یعالج کل ما یتعلق بالعلوم الاجتماعیه على
المستوى الکلی، أما الخطاب الثالث فإنه یعالج کل ما یتعلق بالعلوم الطبیعیه.
وبذلک
یکون النظام السیاسی ومتعلقاته واقعًا فی المستوى الثانی من الخطاب القرآنی وهو
المستوى القیمی المقاصدی الذی یقتصر على تحدید الأطر العامه والقیم الکلیه
والمقاصد العلیا دون التطرق للتفاصیل أو الجزئیات حیث یتم عاده ترکها لتملأ طبقًا
لحاجات العصر وظروفه، وقد یکون من المفید هنا استعاره مصطلح العلامه محمد باقر
الصدر المتعلق بـ”منطقه الفراغ”(۱۱)
التی یملأها کل عصر وکل مجتمع طبقًا لظروفه وواقعه ومن ثم لا یمکن الحدیث
عن نظام سیاسی واضح المعالم والتفاصیل ینسب إلى الإسلام؛ لأن فی ذلک مخالفه لمقاصد
القرآن الکریم وعدم فهم لجوهره ومکنون خطابه، إنما یمکن الحدیث عن نموذج إسلامی
للحکم الصالح، له معالم معینه أوردها القرآن الکریم فی صوره قیم مثل العدل أو
الشورى أو کرامه الإنسان، أو فی صوره مقاصد علیا، مثل الحیاه الطیبه والمصلحه
والاستقرار والاجتماع وحفظ نظام الحیاه الإنسانیه، وتحقیق العباده لله مما یعنی
تحریر الإنسان من کل القیود التی تعبده لغیر الله، وسوف یتم تناول هذا النموذج
فیما تبقى من هذه الدراسه.
رابعا: فی النموذج الإسلامی للحکم: مرکزیه
المجتمع وهامشیه الدوله
قد
یکون من الضروری التأکید على أن المقصود بمفهوم “النموذج” فی هذا السیاق
لا یعنی بأی حال من الأحوال أی دلالات تتعلق بالنمط المثالی ideal type أو المدینه الفاضله، أو الحاله النموذجیه
التی ینبغی أن یتم السعی للوصول إلیها أو تحقیقها، وإنما یعنى بصوره أساسیه مجموعه
من الدلالات تتعلق فی جوهرها بمفاهیم النموذج المعرفی paradigm