سنن النصر والهزیمه / محمد مهدی عاکف- المرشد ا
سنن النصر والهزیمه
محمد مهدی عاکف-
المرشد العام للإخوان المسلمین
الحمد لله رب
العالمین، والصلاه والسلام على أشرف المرسلین، سیدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعین،
وبعد..
فکلما عاد شهر یونیو (حزیران) من کل عام حَمَلَ
إلینا الذکریاتِ المریرهَ والمآسی الحزینهَ لتلک الهزیمهِ الثقیلهِ التی جلَّلتنا
بالعارِ والانکسارِ، ولا نریدُ فی هذه المناسبه أن ننبشَ القبورَ، ولا ننصبَ
المحاکماتِ، ولا نکیلَ الاتهاماتِ، ولا نجلدَ الذات، إنما نریدُ فحسب أن نخرجَ
بالدروس والعظات؛ لنستفیدَ منها فی إصلاحِ مسارنا والنهوضِ بواقعنا.
لا یختلف الدارسون
المدققون ولا العقلاء المنصفون حول أسباب هذه الکارثه التی حلَّت بالأمه وما زلنا
نتجرَّع مرارتَها ونعانی آثارها حتى الآن، وأهمها:
* حکم الفرد
بالدیکتاتوریه والاستبداد وغیاب الدیمقراطیه.
* توحش أجهزه الأمن
القمعیه؛ حیث أطلق لها العنان؛ لتصادر الحریات، وتکمّم الأفواه، وتشیع فی الناس
ثقافه الخوف والرعب من جهه، والجبن والتخاذل من جهه أخرى، فازدادت الهُوَّه بین
النظام والشعب اتساعًا وتعمقًا.
* المبالغه فی تهویل
الذات والتهوین من شأن العدو، وعدم الإدراک الحقیقی لقوته، والقابلیه للتورط
والانخداع.
* غیاب الرؤیه العلمیه
والتخطیط الإستراتیجی، وانتهاج سیاسه ردود الأفعال؛ حیث تتخذ القرارات المصیریه
بطریقه عشوائیه ارتجالیه.
* إهمال إعداد القوات
المسلَّحه (تعبئهً وتسلیحًا وتدریبًا)، واختیار قیاداتها على أساس الولاء لا
الکفاءات، وانشغال هذه القیادات بعالمها الخاص، بعیدًا عن أجواء الجدیه والمسئولیه
التی تفرضها ظروف الصراع والمواجهه.
* وهن الکیان العربی
وعجزه بسبب الفرقه والتشرذم وتباین الولاءات والتبعیات.
* الغفله عن تضاریس
الساحه الدولیه، وصراعات القوى الکبرى وألاعیبها، والقعود عن محاولات توفیر الغطاء
لموقفنا أو کسب الدعم لقضیتنا.
* إعلان الحرب الضروس
على الدعاه والمصلحین، وخاصهً الإخوان المسلمین؛ حیث تعرضوا للملاحقه والترویع،
والاعتقال والتعذیب، والمحاکمات الهزلیه، وأُزهقت الأرواح الطاهره البریئه على
أعواد المشانق تارهً وبالتصفیه الجسدیه تارهً أخرى.
إن من یتأمل هذه
الأسباب المذکوره یجد أن معظمها- إن لم تکن کلها- ما زالت قائمهً للأسف الشدید،
وهنا نقول للحکماء والعقلاء والشرفاء من أصحاب العقول الراجحه والضمائر الحیه
والغیوره الوطنیه فی هذا البلد:أما آن الأوان للنهوض وتضافُر الجهود حتى نتعافَى
من هذا البلاء ونبرأَ من هذه الأدواء؟ وإلى متى یستمر هذا الحال الذی یعرِّضنا
لمزیدٍ من التراجع والتخلف والهزیمه؟!
ولعل من الخیر- ونحن
نحاول الاستفاده من دروس النکسه- أن نذکِّر الأمه فی عمومها بسنن الله فی النصر
والهزیمه لتقف على هذه السنن وتُسایرها وتستفید منها لتحقق النصر فی معارکها- وما
أکثرها!! وما أشرسها!!- وتتقی الهزیمه، فلم تعُد الأمه تحتمل مزیدًا منها بعد ما
ذاقته فی کثیر من الساحات وعلى کثیر من المستویات.
فما هی السنه؟
إنها قانونٌ إلهیٌّ
کونیٌّ ماضٍ، تترتب بمقتضاه المسببات على الأسباب، وهذا القانون ثابتٌ لا یتبدَّل
ولا یتغیر {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّهِ اللَّهِ تَبْدِیلاً} (الأحزاب:من الآیه ۶۲)،
ومِن ثم فعلى کلِّ مَن یسعى لتحقیق هدف ما أن یأخذ بالأسباب الصحیحه المؤدیه إلیه
وفق السنه الإلهیه التی تحکمه.
فما هی أسباب النصر؟!
لا شک أن أسباب النصر
تتعدد وتتنوع، فمنها ما یکون من قبیل الإعداد المستمر للأفراد والمجتمعات قبل
المواجهه المباشره مع الأعداء فی المیدان، ومنها ما تتطلبه المواجهه المباشره فی
المیدان، ولا یخفى أن النوع الأول هو الأهم؛ حیث یحتاج توفیره إلى جهد شاقّ، وعمل
دؤوب، ووقت طویل، وعلى أساسه أیضًا یمکن أن نتوقع الحال عند المواجهه المباشره،
فمن وسائل الإعداد المستمر:
– أن نربی الأفراد
تربیهً إیمانیهً
تدبَّروا قوله
تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّهَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَیَقْتُلُونَ
وَیُقْتَلُونَ} (التوبه:من الآیه ۱۱۱) والآیه الکریمه تتحدث عن القتال فی المیدان،
ثم تکون الآیه التالیه مباشرهً {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاکِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنکَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ
الْمُؤْمِنِین} (التوبه:۱۱۲) وهذه صفات تفصیلیه لهؤلاء الجند الذین یقاتلون فی
سبیل الله، ونلاحظ أن هذه الصفات کلها قد جاءت بصیغه اسم الفاعل الداله على الثبوت
والتمکن، وکأن هذه الصفات هی بمثابه الشروط المسبقه للثبات فی المیدان وحسن
البلاء، وعلى ذلک فیُعتبر السعی لغرس هذه الصفات فی الأفراد- بالتربیه الصحیحه
والتکوین الدقیق- من أسباب النصر التی تسبق شهود المعرکه.
وجدیر بالملاحظه کذلک
أن هذا المقطع القرآنی یتحدث عن أفراد موصوفین بالإیمان، فبدأ بقوله تعالى {إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِینَ} وختم بقوله تعالى {وَبَشِّرْ
الْمُؤْمِنِینَ}، وذلک أن الإیمان هو من أهم أسباب النصر الذی ننشده، وقد تکرر
مرارًا فی القرآن ذکر ارتباط النصر بالإیمان، فمن ذلک قوله تعالى:{إِنَّا
لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاهِ الدُّنْیَا وَیَوْمَ
یَقُومُ الأَشْهَادُ (۵۱)} (غافر) وقوله تعالى:{وَکَانَ حَقًّا عَلَیْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِینَ} (الروم:من الآیه ۴۷) ولا عجب فإن الإیمان یُثمر ثبات القلب،
ورباطه الجأش، والاستخفاف بالموت، والیقین فی وعد الله بالتأیید والنصر فی الدنیا،
وبالمثوبه والرضوان فی الآخره.
إن هذا الإیمان هو الذی جعل عمیر بن الحمام- رضی
الله عنه- یستبطئ البقاء فی الدنیا عندما أخرج تمراتٍ من قرنه فجعل یأکل منهن،
وذلک حین ندبهم النبی- صلى الله علیه وسلم- إلى القتال فی بدر بقوله “قوموا
إلى جنه عرضها السموات والأرض”، فألقى عمیر بتمراته وألقى بنفسه بین الصفوف
والسیوف حتى نال الشهاده.
– وأن نکون أنصارًا
لله
وذلک بالإیمان بأن
منهجَه حق، وأن فیه صلاحَ البشر وسعادتَهم، ثم الاستقامه علیه، والاعتزاز به،
والجهاد فی سبیل التمکین له، وهذا ما یدل علیه قوله تعالى:{یَا أَیُّهَا الَّذِینَ
آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ یَنصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ (۷)}
(محمد) وقوله تعالى:{یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا کُونوا أَنصَارَ اللَّهِ}
(الصف:من الآیه ۱۴) فمَن امتثل لأمره وقام بنصره تحقَّق فیه وعده المذکور بعد
ذلک:{فَأَیَّدْنَا الَّذِینَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِین}
(الصف:من الآیه ۱۴).
ولا شک أن تطبیق مبادئ
الإسلام فی واقعنا هو من أهم صور نصرنا لله ولمنهجه، ومن ثم فهو من أسباب النصر،
ومن هذه المبادئ الحریه والعدل والشورى.. اسمعوا ما قاله ربعی بن عامر- رضی الله
عنه- لرستم موجِزًا مهمه الأمه:”لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عباده
العباد إلى عباده رب العباد، ومن جور الأدیان إلى عدل الإسلام، ومن ضیق الدنیا إلى
سعه الدنیا والآخره”، فکان تبنِّی هذه المبادئ ومناصرتها سببًا فی الانتصار
على الفرس وهم أصحاب الملک العریض والحضاره العریقه.
وانظروا إلى النبی-
صلى الله علیه وسلم- فی غزوه بدر، حین استشار أصحابه قبل المعرکه بفئاتهم المختلفه
(المهاجرین والأنصار بأوسهم وخزرجهم)، فحضَّ- صلى الله علیه وسلم- بذلک القلوب مع
العزائم على الأمر الذی أراد، وانظروا إلیه- أیضًا- وهو یمکِّن سواد بن غزیه
لیقتصَّ منه عندما زعم سواد أن النبی- صلى الله علیه وسلم- أوجعه حین غمزه بمحجنه
وهو یسوِّی الصفوف، یا سبحان الله!! أتصل إقامه العدل فی فهم المسلمین إلى هذا
الحد، فلا عجب إذًا أن تنتصر القله المؤمنه بمثل هذه المبادئ على الکثره الکافره
التی حرمت منها.
ومن عده المواجهه فی المیدان ومتطلباتها
ما جاء فی قوله تعالى
{یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا لَقِیتُمْ فِئَهً فَاثْبُتُوا وَاذْکُرُوا
اللَّهَ کَثِیرًا لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ (۴۵) وَأَطِیعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِینَ (۴۶) وَلا تَکُونُوا کَالَّذِینَ خَرَجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ
بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَیَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا
یَعْمَلُونَ مُحِیطٌ (۴۷)} (الأنفال).
وهذا بیان لعده
المواجهه ومقومات النصر فیها:
الثبات:فمعلوم أن
الفئه التی تحضر إلى المیدان إنما تمثل ما تحمله من منهج حق بقیمه ومبادئه
وتصوراته، فلا یلیق بحال من الأحوال أن تسقط الرایه التی تحملها تلک الفئه، أو حتى
تهتزّ، ومن ثم نفهم موقف الاستبسال المدهش الذی أبداه جعفر بن أبی طالب حین احتضن
الرایه بعضدیه بعد أن قُطعت کلتا یدیه، وذلک حتى تظلَّ الرایه مرفوعهً وما ترمز
إلیه، ومن ثم کذلک نفهم هذا الوعید الأکید والتهدید الشدید لمن یولِّی العدو دبرَه
فرارًا من الساحه {وَمَنْ یُوَلِّهِمْ یَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا
لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَیِّزًا إِلَى فِئَهٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ (۱۶) } (الأنفال:۱۶).
ذکر الله کثیرًا:فبه
تطمئن القلوب وتسکن {أَلا بِذِکْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:من
الآیه ۲۸) وبه تتنزَّل معیه الله تعالى على العباد بالعون والتأیید “أنا مع
عبدی إذا ذکرنی”.
طاعه الله ورسوله:وهذا
مطلب عام ودائم، سواءٌ کان فی المعرکه أو قبلها أو بعدها، ویعنی الاستقامه على
طریق الإیمان وما یتبعه من مقتضیات وما ینمُّ عنه من صفات، وقد نبَّه الفاروق عمر-
رضی الله عنه- المجاهدین إلى هذا العامل المهم من عوامل النصر بقوله:”إنکم لا
تنتصرون على عدوِّکم بکثره عددکم، ولکنکم تَنتصرون علیه بطاعتکم لله ومعصیتهم
له”.
ترک التنازع وجمع
الکلمه وتوحید الصف:فالتنازع یُفضی إلى ضیاع القوه وذهاب الریح، ویترتب على ذلک
الإخفاق فی تحقیق الأهداف، ومن دقائق التعبیر القرآنی هنا أن قدم ضیاع الغایه
{فَتَفْشَلُوا} على ضیاع الوسیله {وَتَذْهَبَ رِیحُکُمْ} لیکون ذلک أبلغ فی
التحذیر والتنفیر من التنازع.
الصبر:وهو یستلزم
الاستمرار على هذه الأحوال جمیعها مهما کان ثقلها أو طال أمدها.
تجنُّب البطر والخیلاء:وهی صفات خطیره تجرُّ على
أصحابها الهزائم والنکسات، والحسرات والویلات، وهذا ما حدث لأبی جهل وحزبه، حین
صمَّم أن ینزل بدرًا ومن معه، وینحروا الجزور، ویشربوا الخمور، وتعزف لهم القیان،
فیتسامع العرب بهم فلا یزالون یهابونهم ویعملون لهم حسابًا أبد الدهر، بل لم یسلم
المسلمون کذلک من آثار تلک الصفات حین خالطت قلوبهم أثارهٌ منها فی (حنین)
فأعجبتهم کثرتهم وقالوا لن نهزم الیوم من قله.
الإخلاص والدعاء:وهما سلاحان ماضیان لا یحتاجان
إلى قوه بدنیه ولا مهاره حربیه، فإذا کان الفرد من الضعفاء أو أصحاب الأعذار فلیس
أقلَّ من أن ینصر المجاهدین فی المیدان بمثل هذا السلاح؛ امتثالاً لقوله صلى الله
علیه وسلم:”إنما ینصر الله هذه الأمه بضعیفها بدعائهم وإخلاصهم”.
یا أمه الإسلام.. ها
قد عرفتم أسباب نصرکم وفق سنن ربکم، ألا فالتمسوا هذه الأسباب، وسایروا هذه السنن؛
حتى نتخلَّص من هذا المسلسل المریر من الهزائم والنکسات، ونحقِّقَ ما نصبو إلیه من
أهداف وانتصارات.. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ
لا یَعْلَمُونَ} (یوسف:من الآیه ۲۱).
وصلى الله على سیدنا
محمد النبی الأمی وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله العالمین
المصدر: الشبکه
الدعویه